المرحلة الثالثة:
وفيها يتخذ طالب العلم مكانه من حلقة التدريس معلِّماً، ويأخذ فرصته في التأليف، ومطالعته العديد من الكتب والمؤلفات، وإنما سمي الدرس (حلقة) لأن الطلاب كانوا ينتظمون وفق نظام علمي وتربوي ويتحلّقون حول شيخهم، وكانت هذه الحلقة تضيق وتتسع تبعاً لعدد الطلاب، وكانت المشاركة صفة غالبة على معظم الدارسين والمنتظمين فيها، وفي هذه الحلقات يتم تسجيل أسماء الحاضرين، وموضوع الدرس، والجزء الذي سُمع من الكتاب كما تثبت النقول المبثوثة في كتب البرامج التي لم يلتزم مصنفوها منهجاً واحداً في تأليفها وترتيب مادتها، ولا في الإطناب والإيجاز ولعلّ من الممكن إجمال تبويبها كما يلي:
أولاً: تبويب البرنامج حسب الكتب التي قرأها صاحبه ورواها:
ويمثّل له بفهرسة ابن خير الإشبيلي(29) (ت 575 هـ) التي تعد أوسع الفهارس التي وصلتنا عن الأندلسيين، ففيها يعرّف ابن خير الكتب التي كانت شائعة، وتدرس في عصره، وهي كتب المختارات، والدواوين كالأصمعيات، والمفضَّليات، وكتاب الحماسة لأبي تمام، وأشعار الهذليين، ويتيمة الدهر، ودواوين ذي الرمّة، والأعشى والمتنبي، وسقط الزند واللزوميات للمعري. وقد سلك هذه الطريق من المشارقة ابن حجر العسقلاني (ت 852هـ) فقد أورد مروياته مرتبة على الكتب، مفرّقة على موضوعات العلوم في الكتاب المسمى بالمعجم المفهرس الذي نجد فيه مؤلفات لأندلسيين صارت كتبهم مرجعاً للمشارقة والمغاربة كأبي عمرو الداني (ت 444 هـ) وأبي عمر ابن عبد البر (ت 462 هـ) وغيرهما.
ثانياً: تبويبه حسب الشيوخ الذين وقع الأخذ عنهم كما في:
1-فهرس ابن عطيّة المحاربي الأندلسي(30) (ت 541 هـ)، وفيه يسرد أسماء شيوخه مبتدئاً بأبيه الفقيه أبي بكر غالب (ت 518 هـ).
وطريقة ابن عطية في ترجمة شيوخه تتجلى في إعطاء صورة واضحة لحياتهم العلمية، كاتصالهم بالشيوخ، وطلبهم للإجازة أو الكتب التي درسوها كما يتطرق إلى تعيين سنة ولادتهم ووفاتهم، وسرد الكتب التي رواها عنهم وسلسلة السند لبعض الكتب المروية إلى مؤلفيها، ويبدو هذا خاصة مع صحيح البخاري وصحيح مسلم وسنن أبي داود وبعض الكتب الأخرى التي كانت محور الدرس والأخذ والعطاء.
2-برنامج أبي الحسن علي الرعيني(31) (ت 666 هـ) الذي يلزم نفسه في برنامج شيوخه ترتيب هؤلاء فصائل وفق اختصاص كل فريق منهم بعلم انفرد به أو غلب عليه، ويفرد لكل فريق باباً خاصاً يسرد فيه أسماء رجاله ونسبتهم إلى أوطانهم، وما حمله عنهم من الكتب، أو رواه، أو استجازه، وتغلب على برنامج الرعيني الناحية الأدبية، فهو لم يُخلِ مؤلفه من ذكر معاصريه من الأدباء والشعراء، وقد ختم برنامجه بقوله: "وقد خاطبني جماعة من الشعراء والكتاب، وجرت بيني وبينهم مراجعات، وترددت إليّ منهم مقطعات، وغير هذا المجموع أولى بها".
3-الغنية(32): فهرست شيوخ القاضي عياض (ت 544 هـ).
يبدؤها المؤلف بمقدمة قصيرة فيها ما تشتمل عليه مقدمات كتب البرامج من كونها تحقق رغبة أعلنها طلبة الشيخ وأهل الثقة به، ثم يذكر القاضي شيوخه مرتبين على حروف الهجاء، مبتدئاً بالمحمَّدين منهم، ثم يذكر مَنْ أسماؤهم على حرف الألف إلى آخر الحروف حتى تصل إلى المئة، معتنياً بذكر مروياته عنهم، ومفصِّلاً أسانيده.
وعن طريق السند تكشف هذه البرامج عن العلوم التي كانت وقفاً على المشارقة، أو التي كانت وقفاً على المغاربة والأندلسيين وعن الكتب المشرقية التي دخلت الأندلس، وعلى يد من انتقلت، فقد عرف الأندلوسيون بولعهم باقتناء الكتب وقراءتها والتعليق عليها.
يروى أن الحكم المستنصر (ت 366 هـ) كان جمّاعاً للكتب، أرسل بطلب كتاب الأغاني من الأصفهاني قبل أن يخرجه في العراق، وبذل في سبيل ذلك ألف دينار ذهباً عيناً، وكان له ورّاقون بأقطار البلاد ينتخبون له غرائب التواليف، وقد ذكر صاحب الحلة السيراء أسماء بعض ورّاقيه، ونقل عن ابن حزم أن عدد الفهارس التي كانت في مكتبة الحكم لتسمية الكتب أربع وأربعون فهرسة، في كل فهرسة خمسون ورقة ليس فيها إلاَّ ذكر أسماء الدواوين"(33).
وقال ابن خلدون عندما ترجم لأبي محمد بن عبد المهيمن الحضرمي (749 هـ): "نحلته في التقييد والحفظ كاملة وكانت له خزانة من الكتب تزيد على ثلاثة آلاف سفر في الحديث والفقه والعربية والأدب والمعقول وسائر الفنون مضبوطة كلها مقابلة، ولا يخلو ديوان منها من ثبت بخط بعض شيوخه المعروفين في سنده إلى مؤلفه حتى الفقه والعربية الغريبة الإسناد إلى مؤلفيها في هذه العصور"(34).
4-فهرست اللَّبلي(35) (ت 691 هـ) وصاحبه المكنّى بأبي الحجاج، وبأبي جعفر قد ارتحل إلى بجاية وتونس والإسكندرية والقاهرة والحجاز ودمشق، وكان له في كل مدينة حل فيها شيوخ، وقد عاد بعد تطوافه في المشرق إلى تونس، واتخذها وطناً يشتغل فيها بالإقراء، فصنف كتابه هذا تلبية لرغبة بعض أهل العلم الذين طلبوا منه أن يضع لهم تصنيفاً يتضمن "ذكر شيوخه الذين أخذ عنهم في البلاد المشرقية والمغربية علم الأصول وغيره من العلوم الدينية على اختلاف ضروبها وتباين فنونها"(36)، وقد عرّف تسعة من أعلام الكلام وأصول الفقه ممن أخذ عنهم.
5-برنامج أبي عبد الله المجاري(37) (ت 862 هـ) وقد رتّب فيه الشيوخ حسب بلدانهم وأماكنهم التي تلقى عنهم فيها مبتدئاً بشيوخ غرناطة، ثم تلمسان، ثم بجاية، ثم تونس، ثم مصر، وقد تعرّض في برنامجه إلى نوع التلقي والنقل للأحاديث التي رواها عن الشيوخ، والكتب التي أخذها عنهم، معيّناً المقدار المقروء من الكتاب إن لم يُقرأ كله، فهو يقول في تلقيّه عن الشيخ أبي عبد الله محمد بن علاق حافظ غرناطة وإمامها:
"قرأت عليه من أول كتاب ابن الحاجب الفرعي إلى آخر باب الزكاة، والربع الأول من تسهيل ابن مالك بلفظي، وسمعت سائرها بقراءة غيري"(38).
6-ثبت أبي جعفر أحمد بن علي بن داود البلوي(39) (ت 938 هـ)، الوادي آشي(40)، وقد ترجم فيه المؤلف حياة شيوخه العلمية ذاكراً أسانيدهم ومروياتهم وإجازاتهم مبتدئاً بأبيه حيث يقول: "أول من قعدت بين يديه وحضرت مجلسه للقراءة عليه والدي الذي نشأت في ظل رفده، وسعى لي في تحصيل السعادة بغاية جهده".
وتكمن أهمية الثبت في أمور ثلاثة هي:
1-تقيّد البلوي بذكر أسماء شيوخه وألقابهم وكناهم، وهو يصحّح ما قد وقع من تحريف عند غيره نتيجة الاختصار في الإسناد مما صيَّره ممن تقبل إجازاتهم.
2-رصد الروافد الثقافية المكوّنة لملكات العلماء من معارف وعلوم ومقطعات شعرية، ورسم ملامح عن النشاط الذي يقوم به طلبة العلم.
3-رصد الحياة العقلية والعلمية والسياسية في الأندلس في أواخر حياتها الإسلامية.
وتجدر الإشارة إلى أن أبا عبد الله بن غازي (ت 919 هـ) عمد إلى وضع ذيل لفهرسه لإلحاق رواياته وإجازاته الحاصلة بعد انتهاء الفهرس الأصلي وسماه: "التعلل برسوم الإسناد بعد انتقال أهل المنزل والناد"(42)
_____________________
نقلا عن ذ.طارق الحمودي حفظه الله