إبراهيم حركات
كان لابن خلدون صاحب المقدمة المشهورة مؤلفات في علوم مختلفة تدل على سعة أفقه الفكري وتنوع ثقافته فإن له من المؤلفات غير المقدمة والتاريخ والتعريف كتبا أخرى ذكرها صاحب الإحاطة:
1- شرح قصيدة البردة
2- تلخيص المحصل للرازي
3- شرح أرجوزة في الفقه لابن الخطيب
4- رسالة في المنطق
5- رسالة في الحساب
6- تلخيص بعض رسائل ابن رشد
أما مميزاته كعالم ومفكر،فهي بالإضافة إلى سعة إطلاعه: 1) حريته الفكرية التي تتجلى في دراسة كتب تختلف نزعات أصحابها 2) اتزانه في التفكير وبعده عن العاطفة والغرور 3) قدرته على استعراض الآراء والتمييز بين صحيحها وفاسدها 4) شدة الملاحظة والقدرة على استخراج القوانين العامة 5) خبرته الواسعة في الحياة السياسية والإدارية للدول.
وكما قال بعض الباحثين، فهو سلفي يرى قصر العقل البشري عن إدراك الأمور الإلهية وأن المعول عن الشرع فيما يخص البعث والروح والوجود، وما عدا ذلك فهو فيلسوف عقلي طبيعي يرى خضوع الأمور لنواميس معينة.
والمقدمة كما هو معلوم، مدخل لعلم التاريخ بجميع فروعه، وهي بالتالي مدخل إلى كتاب العبر الذي لا يخلوا من مزايا خاصة على الرغم من أنه لا يزال مهملا بالمرة كموضوع للنقد بوصفه مصدرا تاريخيا.
ولست أبالغ إذا قلت بادئ ذي بدء:أن كل من المؤرخ وعالم الاجتماع والمربي والمتخصص في الاقتصاد السياسي وحتى البيولوجي سيجد فيه كثيرا من النظريات التي لا تخلق جدتها، فالرجل لم يكن يدري وهو يؤلف هذا المرجع الرائع، أنه لم يضع مؤلفه لمعاصريه، وإنما وضعه لمن بعده بقرون، ونحن نعيش اليوم في خضم النظريات التي عرضها بعمق وبصيرة ثاقبة.
وتقع المقدمة في ستة فصول رئيسية مصدرة بتمهيد مطول وكل من هذه الأقسام الستة يتفرع إلى فصول صغرى:
التمهيد:
من أهم آرائه ونظرياته هنا:
1- فن التاريخ يوقفنا على أحوال الماضين من الملوك والأمم لاستخلاص العبر من سياستهم ومصائرهم، ولا يحكم التاريخ على الأخبار وحدها، فلابد الحكم على العادات وقواعد السياسة وطبيعة العمران مع تحكيم النظر في كل ذلك.
2- حمل على المسعودي الذي زعم أن موسى أحصى القادرين على حمل السلاح في التيه من إسرائيل ولم يثبت أنهم كانوا يتوفرون على ما يقاربه ثم حمل على من يبالغون من معاصريه في تقدير تعداد الجنود والنفقات وعد ذلك من ولوع النفس بالغرائب.
3- لم يقبل انتماء البربر بما فيهم صنهاجة وكتامة إلى حمير، ولكنه ذكر في العبر أن نسابه صنهاجة يعزون أنفسهم إلى حمير، ويتابعهم في ذلك ابن حزم، ونفى في المقدمة أن يكون افريقش الحميري قد وصل إلى افريقيا، إذ أن التبابعة لم يتجاوزوا شبه الجزيرة العربية، فضلا عن الصعوبات المادية التي قد تعترضهم وقد نفى ما حكاه الطبري والزمختري وغيرهما من المفسرين عن ارم ذات العماد التي نسبت إلى هاد وأن مكانها عدن وقال: إن المفسرين ظنوا أن العماد هي الأساطين فتأكدوا إنها مدينة مبنية ذات أساطين،والمقصود بالعماد في نظره عماد الخيام (?).
4- نكبة البراكمة لم تكن بسبب العباسة، بل لاستبدادهم.
5- الرشيد لم يكن مخمرا إذ كان يحج سنة ويغزو أخرى وهذا دليل على تقواه، ولكنه كان يشرب نبيذ التمر على مذهب أهل العراق، ولم يكن يتخذ مظاهر الزينة والحلية في مواكبه، ولم يكن يحيى بن أكتم سكيرا، كما حمل ابن خلدون على من يقدحون في المهدي ابن تومرت.
6- الدول مثل الأمم والأشخاص يعتبرها التطور والهرم، وأهل كل دولة يأخذون عن عوائد من قبلهم حتى ينتهي الأمر إلى تباين تام بين الدول المتأخرة والمتقدمة.
7- لا يرى فائدة كبيرة في الطريقة التي درج عليها المؤرخون المتأخرون في وزراء و حجاب ومساعدي كل ملك،كما فعلوا في شأن بني أمية والعباسيين، ما لم يكن هؤلاء الموظفون من ذوي الشهرة كالمنصور بن عامر.
وبعد هذا التمهيد، تأتي الفصول الستة الرئيسية كما يلي:
1 العمران البشري على الجملة:
يستعرض فيه أهمية الاجتماع الإنساني وضرورته،ويتحدث في لمحة جغرافية عن الأقاليم السبعة ومناخها وطبيعتها، ثم يذكر أثر الهواء في التكوين الفسيولوجي والسلوك الأخلاقي، وأثر البيئة الإقليمية في الحياة الاجتماعية،ويقحم بعد هذا كلاما في شؤون الغيب والوحي والكهانة والرؤيا.
ومن أهم نظرياته في هذا القسم:
أ- إن الإنسان مضطر إلى حياة اجتماعية، ويعبر عن ذلك بقول الحكماء:الإنسان مدني بالطبع فالمدنية والاجتماع والعمران عنده متقاربة المعنى ولكي يضمن الإنسان عيشه يضطر الى البحث عن الأدوات والوسائل التي تسهله له، فيحتاج إلى التعاون، وبما أنه حبل على الظلم أيضا، فلابد من سلطة تحدث توازنا بين أفراد المجتمع، وهذه السلطة هي الملك الذي تمثله بعض المجموعات الحيوانية كالنحل والجراد.
ب- الطقس له أثر عظيم في عمران القسم الشمالي ونقصان القسم الجنوبي من الكرة الأرضية. وهكذا فالبلاد المعتدلة أكثر سكانا من البلاد المفرطة في الحر في أرض أسود جلد أهلها وغلبت عليهم الخفة والطيش وكثرة الطرب أما سكان البلاد الباردة فيغلب عليهم التفكير والاحتياط حتى ليدخروا قوت سنتين والبلاد المجدبة أقدر على احتمال المجاعات والمتغذون بلحوم وألبان الحيوانات الضخمة تنشأ أجيالهم كذلك.
2 العمران البدوي:
استعرض فيه المميزات الأخلاقية والاجتماعية لأهل البادية، وأسبقية حياة البداوة على الحضارة، كما ذكر ما يمتاز به البدو من شجاعة على أهل الحضر، وتحدث عن نشأة العصبية واحتفاظ البدو بأنسابهم وكيفية اختلاط الأنساب ودور العصبية القبلية في الحياة الاجتماعية والسياسية وظروف انحطاطها وضعفها وأسباب انهيار الأمم ودور القبائل العربية في الميدان السياسي .
وهذا القسم من أهم أقسام المقدمة، حتى لا يكاد كل فصل من فصوله يمثل نظرية أساسية في ميدان علم الاجتماع،ومن أهم نظرياته هنا:
أ- لابد من وجود حياة البادية بما تشمله من اشتغال بالفلاحة وتربية الماشية، إلى جانب حياة المدينة التي لا تتسع للزراعة.
ب- البدوي يتعيش بالضروري، والمدني يضيف إليه الكماليات ترفها وحياة غير المتحضر إما من الرعي أو من الزراعة، ولم يذكر الصيد.
ج- الاجتماع نوعان: بدوي وحضري، والأول سابق مادة وضرورة، وكلاهما ضروري ولكن البدو أقرب إلى الخير لأنهم أهل فطرة.
د- لابد للدولة من عصبية (أي حزب يشد أزرها، وقد كانت العصبية يومئذ قبلية أو عائلية) وقلما تعدوا الدولة عظمة الملوك الأربعة الأولين.
ه- لابد من عصبية أسرة معينة ضمن العصبية الكبرى لتتم الرئاسة لأهلها، وتنتقل من رئاسة القبيلة إلى ما فوقها حتى تنتهي إلى الملك بالاستبداد أو المظاهرة.
و- الترف والإفراط في الحضارة يخرب الدول .
ز- من أهم مقومات الملك خدمة المصلحة العامة، ويعبر عن ذلك بـ ((التنافس في الخلال الحميدة)) ويدخل في ذلك تجنب الدس والمكر، والمحافظة على العهد، وإكرام رجال العلم والدين، والعدل بين الرعية.
ح- الأمم الغير المتمدنة يتسع ملكها أكثر من المتحضرة، ومثل هنا بالتبابعة الذين قال أنهم بلغوا العراق والمغرب والهند، مع أنه حمل بشدة على المسعودي في هذا الموضوع ونفى خروج التبابعة من شبه الجزيرة في بداية مقدمته كما مر.
ط- المغلوب يقلد الغالب في زيه وأحواله.
3 تطور الدول ونظمها السياسية والحرية،وخرابها:
يتحدث فيه عن تأسيس الدولة ونموها وانتقالها من الضعف إلى القوة ثم إلى الضعف مرة أخرى ثم يتحدث عن اختصاصات رئيس الدولة خليفة وسلطانا،وعن نظام البيعة وولاية العهد والتنظيم المالي والعسكري وشارات الملك، وأخيرا، انهيار الدولة ومراحله.
ومن نظرياته في هذا الفصل:
أ- أن الدولة قد تستغني عن العصبية القبلية بتقادم العهد وانقياد الرعية، كما حدث في عهد العباسيين إذا انتهت العصبية العربية منذ عهد المعتصم، ولكنهم تحولوا إلى عصبية الترك والفرس، على أن فقدان العصبية الأساسية أدى إلى خراب الدولة.
ب- الدعوة الدينية تزيد الدولة في أصلها قوة على قوة العصبية .
ج- الدولة يتسع نطاقها وملكها على أساس كثرة المتعصبين لها(أي عصبيتها)، وكلما كثرت القبائل والأوطان في بلد صعب استحكام الدولة فيه فإن الشام سهل انقياده على العرب إذ هم أهل حضارة، وهم عرب على الأكثر، وتعذر لأمد طويل خضوع البربر لكثرت قبائلهم وعصيانهم وبداوتهم، وتعذر على هؤلاء إقامة دولة واحدة لأمد طويل.
د- الدولة لها أعمار طبيعية كالأشخاص.
ه- إذا خشيت الدولة على نفسها اصطنعت الموالي الغرباء،ثم ينقلبون عليها.
و- ما قيل عن عظم أجسام الدولة الماضية كعاد وثمود من قبيل الأساطير، فمآثر الدول في الحضارة على قدر قوتها المادية وقابليتها للمدينة.
4 عمران المدن والأمصار:
تحدث عن استقرار الدولة بالأمصار، وعن بناء المدن وقلة المباني في الدول الإسلامية وأسواقها وأسعارها وتطور حضارتها وخرابها.
ومن استنتاجاته في هذا الباب :
أ- إن الدولة في طور تأسيسها تضطر إلى الإستلاء على الأمصار لأمرين،احدهما لتسد نقصا قي الحضارة والعمران، والتاني لكي تحتمي بها عند الحاجة.
ب- إن الهياكل والأبنية العظيمة لا تستقل ببنائها ملك واحد، وقد لا تستقل الدولة الواحدة ببنائها، ومثل بأهرام مصر وآثار الفرس ورباط الفتح وغير ذلك.
ج- إن المباني في الأمة الإسلامية قليلة، لان العرب عريقون في البداوة، وعلى يدهم قامت الدولة، ولكن عصبيتهم لم تطل آلاف السنين ولا مآتها، فلم يبق الحكم بأيديهم أيام الأمويين والعباسيين إلا عقودا، وليس كذلك أمم الفرس والرومان.
د- إذا كثر سكان مدينة رخصت أسعار قوتها الضروري وغلا سعر سلعها الكمالية، وإن قل ساكنوها فبالعكس.
5 وجوه المعاش والصنائع:
تحدث فيه عن حاجة السكان إلى ابتغاء الرزق والسعي فيه وأنواع المعاش من تجارة وفلاحة وصناعة ومهن، وعن تطور الصنائع واضمحلالها ومختلف شعبها.
ومن استنتاجاته هنا:
أ- إن الوظائف الصغرى المرهونة بظروف الترف لا تعتبر معاشا طبيعيا.
ب- أن رجال الدين تعظم ثروتهم في الغالب، كرجال القضاء والفتيا والإمامة والخطابة، ولكنه هنا لم يتعرض للرشوة، وبما أن الأمر يتعلق بوظائف إسلامية فهو لم يتحدث عن رجال الكنيسة وقد كانوا أغنى الناس في عصره.
ج-كلما بعد بلد وتعذرت المواصلات إليه كلما غلت السلع المجلوبة منه.
د- إذا كثر العرض رخصت السلع إلى حد الإفراط فيتضرر المحترفون الصغار وتكسد البضائع فيتوقف هؤلاء عن العمل، كما أن الغلاء المفرط مضر كذلك بالطبقة الشعبية، والمواد الضرورية خصوصا الحبوب الزراعية الأساسية يحمد فيها الرخص.
ه- الصنائع منها ما هو مركب، ويحتاج فيه للكماليات، وما هو بسيط يحتاج فيه للضروريات وهو أسبق، أما تطور الصنائع فيحتاج فيه إلى زمن وأجيال ولا يتم إتقانها إلا بمقدار الطلب عليها، وقد رسخت الصنائع في الأمم التي مضى على تطورها في الحضارة عدة أجيال كبني إسرائيل والصين والهند واليونان، وليس كذلك العرب.
و- من حصلت لها ملكة في صناعة فقل أن يجيد غيرها.
6 طرق التعليم وأصناف العلوم:
هذا أطول أقسام المقدمة،إذ يأخذ أزيد من ثلثها، وفيه يتحدث عن طرق التعليم المتعارفة في عصره، ويدلي بآرائه، ويتحدث عن تطور مختلف أنواع العلوم من دينية و طبيعية ورياضية وأدبية.
ومن نظرياته في التعليم:
أ- ضرورة مراعاة عقل المتعلم
ب- التدرج في تلقين التعليم على ثلاث مراحل
ت- يحسن الاشتغال بالعلوم واحدا واحدا
ث- الشدة على المتعلمين مضرة بهم.
ج- الرحلة في طلب العلم مفيدة
ح- لا يعاق المتعلم بكثرة التآليف كما أن كثرة المختصرات مضرة
خ- التعليم من جملة الصنائع.
ومن آرائه عن العلم والعلماء:
أ- العلوم تنمو حيث تنمو الحضارة.
ب- حملة العلم في الإسلام أكثرهم عجم.
ت- العلماء من أبعد الناس عن السياسة.
ولم يترك في هذا القسم علما معروفا في زمنه لم يتحدث عنه، كالتفسير والفرائض والفقه والكلام والتصوف والجبر والهندسة والهيئة والمنطق والسحر والكيمياء والروحانيات والتنجيم والفلسفة والنحو والأدب واللغة والبيان والموسيقى.
ومن أهم النظريات الثورية التي لم يبلغ إلى علمي أن المعتنين بمشاكل العربية قد انتبهوا إليها، والتي سبق إليها هذا العالم الفذ، دعوته إلى إصلاح اللغة العربية عن طريق تعويض حركات الإعراب أو تيسيرها وفي ذلك يقول بالحرف في الفصل الخاص بـ(( أن لغة العرب لهذا العهد مستقلة مغايرة للغة مضر وحمير))( ص511- المطبعة البهية- مصر ):
((لعلنا لو اعتنينا بهذا اللسان العربي واستقربنا أحكامه، نعتاض عن الحركات الإعرابية في دلالتها بأمور أخرى موجودة فيه، فتكون لها قوانين تخصها،ولعلها تكون في أواخره على غير المنهاج الأول في لغة مضر، فليست اللغة وملكاتها مجانا، ولقد كان اللسان المضري مع اللسان الحميري بهذه المثابة، وتغيرت عند مضر كثير من موضوعات اللسان الحميري وتصاريف كلماته.))
هذا عرض مبسط لمقدمة ابن خلدون، وتكاد تكون كل من نظريات هذا الفيلسوف الاجتماعي تشكل موضوعا قائما بذاته، على أن بعض هذه النظريات قابل للمناقشة والرد، والبعض الآخر لم يعد صالحا، والباقي هو الأكثر يكتسي صبغة الاستمرار والتعميم وتلك قاعدة العلم الرئيسية.