عبد القادر العافية
هذه شخصية من الشخصيات البارزة من أسرة بني راشد بشمال المغرب في القرن السادس عشر الميلادي.
والست الحرة سيدة حظيت بشهرة واسعة النطاق في الشمال الغربي من أفريقيا الشمالية.
وهي ممن اعتنى المؤرخون الأجانب بالحديث عنها والتعرض بالذكر لأيام حكمها بتطوان.
ولعل شهرة هذه السيدة قامت على عدة اعتبارات: فهي ابنة أمير شفشاون علي ابن راشد (917 هـ 1511 م) تلك الشخصية المعروفة في الداخل والخارج بالنسبة لذلك العصر.
وهي في نفس الوقت الأخت الشقيقة للوزير أبي سالم الأمير إبراهيم ابن راشد لأن أممها هي (للا الزهراء) ذات الأصل الإسباني الأندلسي(1).
وهي كذلك زوجة قائد تطوان محمد المنظري ..
وهي حاكمة تطوان في فترة معروفة من تاريخ المغرب(2).
وهي بعد كل هذا وذاك زوجة السلطان أحمد الوطاسي (932-956) ابن السلطان محمد الشيخ (البرتغالي) (910-932) الذي اعتبر زواجه في ذلك الوقت شبيها بزواج الملكين الكاثوليكيين فرديناند (1452-1516) وإيسابيلا (1451-1504) ملكا إسبانيا في أواخر القرن الخامس عشر الميلادي وأوائل السادس عشر.
وهكذا اشتهرت هذه السيدة وتحدث عنها المؤرخون من مغاربة وأجانب(3).
نسبها واسمها:
أما نسبها فهي كما قلنا بنت الأمير المجاهد علي بن موسى بن راشد بن علي بن سعيد بن عبد الوهاب بن علال بن السلام بن مشيش «العلمي».
فهي إذن شريفة النسب «علمية – إدريسية – حسنية». أما اسمها: فقد اختلف فيه المؤرخون بالرغم من شهرتها (بالست الحرة).
لقد ادعى بعض المؤرخين الأجانب أن اسمها هو عائشة(4) ولذلك فهم يجعلون لفظ (الحرة) لقبا كان يطلق عليها تشبيها لها بأنثى الطائر الحر الذي هو الباز، نظرا لما يتمتع به هذا الطائر من مزايا عديدة يتميز بها عن سائر الطيور، فهي قد شبهت به في نظر هؤلاء نظرا لما كانت تتمتع به من ذكاء وشجاعة ونخوة وخبرة سياسية...
ويرى الأستاذ محمد داود في تاريخ تطوان أنها لقبت بالحرة تمييزا لها عن الإماء، لأن الناس في ذلك العصر كانوا يكثرون من التسري بالجواري ...
ويرى الأستاذ البحاثة عبد الوهاب بن منصور: إن اسمها الحقيقي هو (الحرة) لا عائشة ويؤكد أن الحرة ليس لقبا ولا صفة لها بل هو اسمها الشخصي، وقد اعتمد في ذلك على ما ورد مثبتا في عقد زواجها من السلطان أحمد الوطاسي(5).
ولعله مادام الأستاذ عبد الوهاب بن منصور قد اعتمد على هذه الوثيقة الفريدة من نوعها، والتي احتفظ لنا بها الزمن سليمة واضحة معبرة ... فإن رأيه في الموضوع يكون مدعما بحجة غير قابلة للطعن.
وإذا كان لفظ الحرة ليس صفة ولا لقبا لها بل هو اسمها الشخصي فهنا نتساءل:
هل كان يا ترى اسم الحرة شائعا بين النساء في ذلك العصر أم لا؟
وهل اسم الحرة تخيره لها والدها عن نظير أو من غير نظير ...؟
أم هو اسم نقل من الوصفية إلى (العلمية) لغاية من الغايات ولمعنى من المعاني، كما هو الحال في كثير من الأسماء؟
وللإجابة عن هذه الأسئلة لابد من الرجوع إلى الوثائق والمصادر...
وبالرجوع إلى ذلك نجد: أن لفظ الحرة كان قد اشتهرت به بعض النساء الذائعات الصيت والشهرة في ذلك العصر ...
فأم السلطان أبي عبد الله محمد بن الأحمر آخر ملوك غرناطة مثلا غلب عليها اسم الحرة واشتهرت به.
ويذكر المؤرخون أن هذه السيدة النبيلة علق بها لفظ (الحرة) إلى درجة تنوسي معها اسمها الحقيقي الذي هو (عائشة).
ويذكر المؤرخون كذلك أن هذه السيدة كانت فريدة من نوعها لأنها قد استطاعت أن تفرض وجودها في التأثير على سير الأحداث بمملكة غرناطة في المرحلة الأخيرة من مراحل دولة بين الأحمر بالأندلس، حيث اشتهرت هذه السيدة في شبه جزيرة إيبيريا شهرة واسعة وأصبح اسمها يتردد في المحافل والندوات ... وأضحى الناس يتحدثون عن جرأتها وشجاعتها ودهائها ومواقفها العجيبة(6).
ومن هنا لا يبعد أن تكون أم الحرة الشفشاونية تلك الأم الأندلسية الأصل والتي عايشت الفترة الأخيرة من حياة غرناطة معايشة بكل إحساسها وعواطفها ... لا يبعد أن تكون تلك الأم اختارت لابنتها الأميرة لقب الملكة الغرناطية الذائعة الصيت.
ولا يبعد كذلك أن يكون ذلك من اقتراح والدها الذي عرف بلاط بني الأحمر وعاش في غرناطة في هذه الفترة بالذات.
ثم إن اسم (الحرة) لاشك أنه كان له صدى ملحوظا عند الجالية الأندلسية المقيمة بشفشاون في
ذلك الوقت، وكذا عند الجالية الأندلسية المقيمة بتطوان(7).
وحسبما يبدو أنه نظرا لهذه الاعتبارات سميت الأميرة الراشدية (بالحرة) إعجابا وتقديرا لملكة غرناطة الذائعة الصيت.
ومن هنا يبدو كذلك أن مصدر وهم المؤرخين الأجانب جاء من اشتباه «العلم» «بالصفة» فالحرة الشفشاونية ظنوا أن اسمها عائشة كحرة غرناطة، وبذلك أصبحوا يطلقون على الحرة الراشدية (عائشة).
وتذكر المصادر التاريخية أن عائشة الحرة ملكة غرناطة زوجة السلطان أبي الحسن ابن الأحمر وأم السلطان محمد أبي عبد الله ابن الأحمر، أطلق عليها لفظ الحرة تمييزا لها عن ضرتها (ثريا) الرائعة الجمال ابنة أحد عظماء المسيحيين والتي هام بها السلطان أبو الحسن على كبر سنه.
والهيام (بثريا) من قبل السلطان أبي الحسن فتق عبقرية زوجه عائشة الحرة وأصبحت تتدخل في القضايا السياسية... تثبيتا لوجودها ومكانتها. وتوطيدا لمستقبل ولديها محمد ويوسف، وهنا ظهرت عبقريتها وذاع صيتها ...(
.
ومهما يكن من أمر هذا الشبه، أو الاشتباه، وثيقة عقد زواج الست الحرة بالسلطان أحمد الوطاسي المشار إليها سالفا أثبتت بما لا مجال فيه للشك اسم الأميرة الراشدية حاكمة تطوان هو (الحرة) لا عائشة.
مولدها ونشأتها:
ولدت السيدة الحرة بشفشاون حوالي سنة 1493 م / 899 هـ وربيت ونشأت في حجر والدها الأمير علي بن موسى بن راشد، وتلقت تعليمها على يد أشهر العلماء ورجال الدين بهذه المدينة(9) ولاشك أنها بذكائها ومواهبها استطاعت أن تحصل على ثقافة هامة انعكست على تصرفاتها وحياتها فيما بعد.
وفي هذا الموضوع يقول صاحب كتاب (أسرة بني راشد بشمال المغرب): «تروي لنا الأخبار سواء البرتغالية أو الاسبانية أن هذه السيدة النبيلة كانت تتوفر على ذكاء نادر، وأخلاق سامية هيأتها لتأخذ بيدها السلطة، وذلك بسبب التعليم الذي تلقته من أشهر العلماء ورجال الدين في عصرها ...»(10).
زواجها من القائد المنظري بتطوان:
من المؤكد عند المؤرخين أن الست الحرة زفت إلى القائد المنظري بتطوان في حياة والدها علي ابن راشد وذلك حوالي سنة 1510 م/ 916 هـ زفت هي فتاة مكتملة النضج، في نحو الثامنة عشر من عمرها، وتذكر بعض المصادر أن هذا الزواج كان بمثابة تحالف متين بين إمارة شفشاون وقيادة تطوان من أجل تقوية جبهة الدفاع ضد البرتغاليين المحتلين لثغور شمال المغرب(11).
ويرى بعض المؤرخين أن هذا الزواج كان من أبي الحسن علي المنظري الذي توفي عن سن عالية، والذي كف بصره في آخر حياته ...(12) .
بينما يرى الأستاذ محمد داود مؤرخ تطوان أن هذا الزواج كان من قائد تطوان محمد المنظري حفيد الأول ولعل الذي ينسجم مع الأحداث والوقائع التاريخية هو ما ذهب إليه الأستاذ داود.
زواج السيدة الحرة بالسلطان أحمد الوطاسي(13):
لقد تحدثت بعض المصادر الأجنبية والعربية عن هذا الزواج(14) والحقيقة أنه كان زواجا لافتا للأنظار تحدث عنه المؤرخون وعلق بأذهان كتاب المذكرات والتراجم ... وذلك لأنه زواج سلطان ينتقل من فاس ليتزوج في تطوان وهو في جموعه العديدة، وحاشيته الكبيرة، وجيشه الوافر وعدته وعدده ... وبالإضافة إلى ذلك كان السلطان في هذه الرحلة محاطا بحاشية كبيرة من العلماء وكبار المشايخ، وكل هذا أضفى على هذا الزواج هالة وأعطاه شهرة، وإذا كان الأمر بهذه المثابة، فما هو المقصود من هذا الزواج يا ترى؟
وما هي الغايات القريبة أو البعيدة المتوخاة منه؟
ولماذا كان هذا الزواج في تطوان بالذات ولم يكن في فاس حيث قصور السلطان ومظاهر أبهته؟
ولعله من الأكيد أن مثل هذه الأسئلة تتبادر إلى ذهن القارئ وهو يقرأ عن حادثة زواج السلطان أحمد الوطاسي بالأرملة الجميلة الست الحرة حاكمة تطوان.
وإذا كانت الإجابة بالتدقيق عن كل هذه الأسئلة تعد من الصعوبة بمكان نظرا لسكوت المصادر عن ذلك، فإننا سنحاول على الأقل إلقاء بعض الأضواء على هذا الموضوع.
وهنا سنلاحظ أولا: أن علاقة السلطان أحمد الوطاسي بالست الحرة الراشدية لم تكن وليدة يوم وليلة، أو علاقة سريعة نشأت بعد زيارة السلطان لتطوان ثم تحولت بعد أيام معدودة إلى زواج ... كلا لم يكن ذلك، بل علاقة السلطان بحاكمة تطوان كانت قائمة قبل هذه الزيارة التي انتهت بالزواج، إذ من المعلوم أن علاقة السلطان أحمد الوطاسي بالأسرة الراشدية بشفشاون كانت علاقة وطيدة للغاية حيث كانت تربطه بهذه الأسرة روابط شتى.
فأخت السلطان أحمد الوطاسي السيدة عائشة بنت السلطان محمد الشيخ (910 – 931) الملقب بالبرتغالي كانت هي زوجة الأمير إبراهيم أخ السيدة الحرة الذي أصبح وزيرا ومستشارا للسلطان بل كان هذا على رأس القيادة العسكرية للسلطان أحمد الوطاسي وكان كذلك من أبرز الشخصيات في الدولة لذلك العهد وذلك لما كان يتوفر عليه من مواهب في الميدان العسكري والميدان السياسي والدبلوماسي(15).
فالسلطان أحمد الوطاسي إذا كان يعرف الست الحرة أخت وزيره وصهره معرفة حقيقية، وهي بالإضافة إلى هذا وذاك هي عاملته على تطوان وإقليمها.
ولاشك أنه كانت بين السلطان والأميرة مراسلات ومكاتبات في مواضيع شتى سياسية وغيرها ... ومن الأكيد نظرا لهذه الروابط العائلية والسياسية أن هوى الأميرة الراشدية في هذه الفترة الحرجة من تاريخ المغرب كان وطاسيا لأنه في هذه الفترة بالذات كان معظم الناس في المغرب يصنفون إلى صنفين: صنف هواه وطاسي، وصنف آخر هواه
سعدي، لأن الدولة السعدية كانت قد ظهرت في جنوب المغرب ابتداء من مطلع القرن السادس عشر الميلادي وكان أبطال من الأسرة السعدية قد قاموا بأعمال جهادية جليلة زعزعت الوجود البرتغالي في الثغور المحتلة بالجنوب.
وبهذا استبشر الناس خيرا بالسعديين وأصبح عدد منهم هواه سعديا في حين ظل عدد آخر من الناس بالمغرب على إخلاصه وولائه للدولة الوطاسية نظرا لماضيها في الجهاد والنضال ... ونظرا لما كانت تمثله من ملك أصيل وعريق مما جعل بعضهم يردد الكلمة المأثورة: «بعد بني مرين وبني وطاس ما أبقوا ناس».
ومعنى هذا أن الناس في هذه الفترة بالذات كان فيهم من هواه سعدي ومن هواه وطاسي وكل كانت له اعتباراته ونظرياته.
ويبدو أن الأميرة الراشدية بحكم ارتباطها وارتباط شقيقها الوزير إبراهيم بالوطاسيين كان هواها وطاسيا مائة في المائة ولذلك فهي كانت مثلا على النقيض من أخيها لأبيها محمد بن راشد حاكم شفشاون في هذه الفترة والذي تذكر بعض الوثائق أن هواه كان سعديا وأنه عمل على الاتصال بمحمد الشيخ السعدي بعدما استقر الأمر للسعديين بمراكش(16).
ولعل هذا هو ما يفسر لنا (الحركة) التي قام بها السلطان أحمد الوطاسي على شفشاون سنة 948 هـ أي في هذه الرحلة التي نتحدث عنها بالذات حيث أخضع محمد بن راشد ثم عفا عنه بعد ذلك لتدخل الوجهاء والعلماء بالصلح بينه وبين السلطان.
وبعدما أخضع القائد ابن راشد وعفا عنه واصل السير نحو تطوان التي سنراه يحتفل فيها احتفالا كبيرا بزواجه من الست الحرة أخت القائد محمد بن راشد.
و(حركة) السلطان أحمد الوطاسي إلى شفشاون ورحلته إلى تطوان هذه الحركة أو هذه الرحلة السلطانية تعرض لها كل من ابن القاضي في لقط الفرائد والإمام أحمد المنجور في الفهرس(17) ومحمد العربي الفاسي في مرآة المحاسن، ثم من جاء بعدهم ...
ومن المعلوم أنه في هذه الرحلة تزوج السلطان الوطاسي بالست الحرة بتطوان ويبدو أن الرحلة السلطانية ابتدأت من فاس واتجهت نحو الشمال عن طريق القبائل الآتية:
الحياينة، بني ورياكل، بني زروال، بني أحمد، الأخماس(18)، فشفشاون. وفي شفشاون كما عرفنا من قبل أخضع السلطان القائد ابن راشد الذي رجحنا أن هواه سعديا في هذه الفترة نظرا للاعتبارات السالفة وانتهت (الحركة) على شفشاون بالصلح وبتثبت القائد الراشدي في مركزه تم بعد ذلك حط السلطان بمجموعه الغفيرة بتطوان حيث احتفل بزواجه من الست الحرة.
ويستفاد من الإمام أحمد المنجور أن العلماء الذين رافقوا السلطان في هذه الرحلة كانوا يقومون بنشاط ثقافي كالتدريس وغيره ... ويذكر أن شيخه البسيتني ورفيقه عبد الوهاب الزقاق وعبد الواحد الونشريسي كانوا ممن رافق السلطان في هذه الرحلة إلى شفشاون وتطوان إلى جانب شيخهم شيخ الجماعة (علي ابن هارون)(19) وينقل عن شيخه أبي عبد الله محمد البسيتني أنهم في هذه الرحلة إلى تطوان كانوا يدرسون على شيخ الجماعة علي ابن هارون (خزرجية العروض) وسنلاحظ فيما بعد أن بعض هؤلاء العلماء السالفي الذكر كان ممن وقع على عقد زواج السلطان بالست الحرة حاكمة تطوان.
هذا ولقد أثار زواج السلطان أحمد الوطاسي بالأميرة الحرة حقد الأوربيين وضغائنهم حسبما تصرح به بعض الوثائق، جاء في عمدة الزاوين: «أن
ملك إسبانيا –فيلب الثاني (كذا)-(20) اغتاظ من تزوج أحمد الوطاسي بالست الحرة، لأن هذا يربط أواسر الصداقة والمودة بين مجاهدي تطوان وشفشاون وبين السلطان فيتحدون ضده ...»(21) وسبقت الإشارة إلى أن بعضهم شبهه بزواج الملكين الكاثوليكيين فردناند وإيسابيلا (1451-1519 م) ملكا إسبانيا.
والحقيقة هي أن هذا الزواج كان سياسيا بالدرجة الأولى خاصة وأن السلطان أحمد الوطاسي كان يجد نفسه في موقف حرج جدا وذلك نتيجة قيام السعديين بالجنوب الذين أصبحت تشرئب أعناقهم لامتلاك المغرب كله، وكان قيامهم يعتمد على الدعوة إلى الجهاد وتوحيد صف المغاربة ضد الأجنبي الدخيل ...
وكانت سياسة الوطاسيين منذ ظهورهم على مسرح السياسة بالمغرب هي مهادنة العدو تارة، ومقاومته في بعض الأحيان، وهذه السياسة لم يكن الجمهور المغربي في مجموعه راضيا عنها بل كانت منتقدة من طرف زعماء الجهاد ومن طرف العلما ...(22)
جاء في الدوحة في ترجمة أحد العلماء المجاهدين –الشيخ محمد البهلولي الذي لفظ أنفاسه وهو يتحرق شوقا إلى الجهاد. قال بعضهم: «يا سيدي أخبرك أن السلطان أمر بالغزو (وبرح به) وأمنت الناس عليه والمسلمون في شوق لذلك، ففتح الشيخ عينيه وهلل وجهه فرحا وحمد الله وأثنى عليه ففاضت نفسه وهو مسرور بذلك ...»(23).
فالسلطان الذي أمر بالغزو (وبرح به) وفرح الناس بأمره هو السلطان أحمد الوطاسي وذلك بعد موت أبيه محمد الشيخ (البرتغالي) وتنحيته لعمه أبي حسون سنة 932 هـ.
إلا أن السلطان أحمد بعد ذلك تبع سياسة أبيه وجده في المهادنة والمناوشة أحيانا.
وفي سنة (948 هـ / 1541 م) كان السلطان أحمد الوطاسي قد خسر عدة معارك مع السعديين(24) وكان يريد أن يحافظ على ما بقي له من شمال المغرب.
فكان عليه أن يتفقد هذه الجهات وأن يستوثق من حكامها وأن يمتن صلاته بهم ... ولو عن طريق الزواج.
ولهذا فزواج السلطان أحمد الوطاسي بحاكمة تطوان زواجا سياسيا بالدرجة الأولى، ومما يؤكد ذلك أن السلطان لم يصحب عروسه معه بعد بنائه بها بل تركها في تطوان تحرس الثغور وتنظم عمليات الحصار على سبتة وعلى غيرها من الثغور المحتلة بالشمال.
وفي هذا الظرف بالذات كان الخرق قد اتسع على الرائق وكان السلطان أحمد الوطاسي قد خاض مع السعديين عدة معارك لم يخرج منها بطائل وكان في هذه الأثناء يحاول أن يهدئ الأوضاع في الجزء الذي بقي له من المغرب.
وبهذا يبدو أن غايات الزواج وأهدافه كانت هي الوصول إلى تهدئة الأوضاع باقصى شمال المغرب.
وبهذا ندرك أن الزواج من الست الحرة كان تحالفا مع أبرز شخصيات شمال المغرب في هذه الفترة العصيبة من تاريخ الوطاسيين...
الست الحرة حاكمة تطوان:
وهكذا نرى الحكم الوطاسي كان يعمل من أجل استقرار الأوضاع وتثبيت مركزه ونفوذه في مناطق الشمال.
وتؤكد الوثائق العربية والأجنبية أن الست الحرة حكمت تطوان ونواحيها فترة طويلة من الزمن،
فإذا اعتبرنا أنها شاركت زوجها محمد المنظري في الحكم –وهذا هو الراجح- تكون هذه السيدة قد حكمت تطوان ونواحيها ما يزيد عن ثلاثين سنة. أي منذ زواجها بالقائد المنظري سنة 916 هـ/ 1510 م إلى زوالها من الحكم سنة 949 هـ / 1542 م.
والغريب في الأمر هو أنه خلال هذه المدة الطويلة من حكومة الست الحرة نرى المصادر العربية تكاد تكون ساكتة عن الأحداث اللهم إلا إذا استثنينا بعض الإشارات العابرة هنا وهناك فمن ذلك مثلا ما أشار إليه ابن عسكر في الدوحة عند ترجمته (للجاسوس المجهول) حيث قال: «وأتوا به إلى تطوان في ولاية الست الحرة بنت علي ابن راشد وذلك في حدود الخمسين». (أي من القرن العاشر) وتعرض لزواجها من السلطان أحمد الوطاسي ابن القاضي في لقط الفرائد، ومحمد العربي الفاسي في مرآة المحاسن وغيرهم ... إلا أن كل ذلك إشارات عابرة لا أقل ولا أكثر ... وهكذا نرى بكل أسف أن مصادرنا الوطنية لم تعتن بالحديث عن هذه السيدة عناية تناسب مركزها الاجتماعي والسياسي ... ونجد على العكس من ذلك أن المصادر الأجنبية تحدثت عن الست الحرة حاكمة تطوان في مناسبات عديدة ...إلا أنه مما يلاحظ في هذا الموضوع أن كتابات الأجانب عنها بالرغم مما لها من الأهمية فإنها لا تخلو من أخطاء فادحة.
فمن ذلك مثلا ما سبقت الإشارة إليه من أنها كانت تسمى (عائشة) ومن ذلك أيضا ما ذكره الكولونيل هنري دي كاستري من أن الست الحرة هي والدة ابن عسكر صاحب الدوحة(25).
ولقد رد عليه مقالته هذه كل من الأستاذ عبد الرحيم جبور في كتابه (أسرة بني راشد بشمال المغرب) والأستاذ محمد داود في كتابه تاريخ تطوان(26).
ومن ذلك أيضا الإدعاء بأن حياة السيدة الحرة انتهت بالقصر الكبير، وأنها دفنت خارج باب سبتة من هذه المدينة ...(27) وربما كان مصدر هذا الادعاء هو اعتقاد بعض الكتاب الأجانب بأنها والدة صاحب الدوحة التي ربما يكون ذلك صادقا في شأنها.
مع أن المتواتر عند الشفاشاونيين هو أن السيدة الحرة انتهت حياتها بشفشاون حيث كان في رعاية أخيها الأمير محمد، وأنها دفنت برياض الزاوية الريسونية بهذه المدينة حيث ما يزال قبرها معروفا وحاملا لاسمها إلى اليوم.
إلا أنه بالرغم من كل هذا فإن كتابات المؤرخين الأجانب تظهر عنايتهم بالحديث عن الأسرة الراشدية وبخاصة حديثهم عن الأمير إبراهيم بن راشد، والأميرة الحرة ..
فعن الحرة مثلا يقول الكاتب سبستيان بركاز: «إنها كانت شديدة الانفعال: ففي إحدى المناسبات تشاجرت مع حاكم سبتة (الفونصو دي نورنها) فلجأت إلى العنف والحرب لأنها كانت شديدة الاندفاع وميالة إلى الحروب .. وأنها كانت مهتمة بتجارة الرقيق من المسيحيين على مستوى عال، وكانت سفنها دوما تجوب البحار، وكانت المراكب الجزائرية تلقى حفاوة بمرسى تطوان ...»(28) فمثل هذا النص لا نجده عند كتابنا الوطنيين، وهذا النص بالرغم من ظهور الانفعال على صاحبه فهو يعطينا فكرة عن بعض الجوانب من سياسة الست الحرة حاكمة تطوان فهو يقول: إنها لجأت إلى الحرب مع حاكم سبتة والحقيقة أن اللجوء إلى الحرب من طرف المغاربة كان يثير المحتلين الغاصبين. لأنهم يريدون من السكان المجاورين لمراكز احتلالهم أن يلتزموا الهدوء وأن يرضوا بالأمر ا لواقع ...!! وهذه السياسة كانت ترفضها الست الحرة كما كان يرفضها الشعب المغربي برمته.
والغريب أن الأوربيين المحتلين كانوا يرون مقاومة احتلالهم ما هو إلا اندفاع وحب للحرب ...!
ويذكر هذا النص أن الست الحرة كانت لها عناية بالتجارة في الرقيق من المسيحيين ... وكانت تجارتها هذه «على أعلى مستوى»!!
وكان الأوربيين بهذا المنطق يريدون أن يتجروا وحدهم فيما عداهم من الشعوب، أما أن يتجر غيرهم في المسيحيين فهذا مما يسجل ويستهجن ويشهر به ...!!
ويتعرض النص للحفاوة التي كانت تلقاها السفن الجزائرية من طرف الست الحرة بمرسى تطوان.. ومن المعلوم أن حفاوة المغاربة بالجزائريين كانت سياسة متبعة من قديم الزمن.
والنص هنا يشير إلى وحدة خطة الجهاد بين المغرب والجزائر ضد المسيحيين المحتلين. وهو في نفس الوقت يشنع على الست الحرة حفاوتها بالسفن الجزائرية لأن تضامن ووحدة شعوب المغرب العربي كان مما يحز في نفوس المستعمرين وأذنابهم ... وهذه سياسة ما تزال متبعة –بكل أسف- إلى يومنا هذا.
ويشير النص كذلك إلى أن أسطول الست الحرة كان يجوب البحار دوما وهذا كان مما يهدد المصالح الإمبرايالية والاستعمارية في ذلك الوقت..
ونرى الكاتب هنا بالرغم من قصر النص يتعرض لذكر نقط حساسة بالنسبة لذلك العصر ...
1) محاربة المحتلين للثغور المغربية ومقاومتهم من طرف المغاربة، وهذه كانت قضية تشغل بال الجمهور المغربي.
2) خطورة العمليات القرصنية ومخر سفنها للبحار.
3) التجارة في الرقيق.
وبطبيعة الحال تعد هذه القضايا من أبرز أحداث القرن السادس عشر الميلادي.
وهناك عدة لقطات من هذا النوع، سيطول بنا الحديث إن نحن تتبعنا ذلك في هذا التعريف الموجز بالست الحرة.
إلا أن النص في مجمله يعطينا نظرة عن تأزم الأوضاع بين المغاربة والبرتغاليين ولا شك أن عمليات المقاومة في هذه الفترة كانت مما يقلق بال المحتلين وفي الفترة الأخيرة من حكم الست الحرة لتطوان ونواحيها نجد المقاومة المغربية يقظة وحذرة ...
ومما يستفاد من كلام ابن عسكر في ترجمة (الجاسوس المجهول) أن الناس في هذا الظرف بالذات كانوا حذرين مترقبين، وأن العمليات الجاسوسية كانت على أشدها ...(فالسيد الجاسوس) الذي ترجم له ابن عسكر(29) بالرغم من أن أمره لم يكن واضحا تماما بل ربما كان جانب (الجذب) أرجح فيه من جانب الجاسوسية فإنه بالرغم من ذلك فإن الشكوك كانت تدور حوله، وألقي عليه القبض وقدم لحاكمة البلاد الست الحرة بتهمة الجاسوسية... ونرى أن هذه الحادثة مثلا كانت بعد زواج السلطان من الست الحرة في حدود الخمسين من القرن كما صرح بذلك ابن عسكر والراجح أنها كانت سنة 949.
وسنرى أنه في هذا الوقت بالذات كان أفراد من أسرة المنظري –المتنقلين بين فاس وتطوان- يعملون ضد الحكم الوطاسي بكل ما أوتوا من كيد وحيل.
ولقد نجح محمد الحسن المنظري في الانتقام من السلطان أحمد الوطاسي حيث استطاع أن ينجح في ثورته ضد زوج السلطان وعاملته بتطوان.
ولعل من أهم أسباب نجاحه هو أن الناس في هذا الظرف الحرج من تاريخ المغرب كانوا يسمعون عن السعديين وعن انتصاراتهم على البرتغاليين في الثغور بالجنوب ولاشك أن مثل هذه الأخبار كانت تخلق موجة من السخط ضد الوطاسيين وضد حكامهم والموالين لهم ...
وفي هذا الجو المفعم بالدعاية ضد الوطاسيين قضي على حكم الست الحرة بتطوان.
ولعل انسياق الست الحرة مع السياسة الوطاسية إلى النهاية هو ما كان محمد ابن راشد بشفشاون ينعيه على أخته حاكمة تطوان.
ومهما يكن من أمر فإن القضاء على حكم الست الحرة كان نتيجة انسياقها مع السياسة الوطاسية إلى النهاية.
وتحدثنا المصادر: «أنه في 20 أكتوبر 1942 م اختفى من فاس محمد الحسن المنظري الباجي الأندلسي بسبب خلافات عميقة مع السلطان أحمد الوطاسي وتوجه إلى تطوان مرفوقا بأسرته وبعض فرسانه تاركا متاعه وأملاكه ... وطرد الست الحرة بعد أن جردها من أملاكها. وفي 22 أكتوبر أعلن استقلاله عمليا عن ملك فاس ...».(30)
وهكذا نرى أن الثائر محمد بن الحسن المنظري استطاع أن يستغل ضعف السلطان أحمد الوطاسي فاستقل بحكم تطوان وطرد الست الحرة ... وكانت هذه الأحداث سنة: 949 هـ / 1542 م.
(1) - الأمير إبراهيم ابن راشد (896 هـ / 1490 م – 946 هـ / 1539م) هو ابن علي بن موسى ابن راشد من زوجته الأندلسية المسيحية الأصل من (فيخردي لافرونطيرا)، قرب الجزيرة الخضراء أسلمت بعد زواجها من الأمير علي ابن راشد وسميت بلالا الزهراء.
(2) - انظر تاريخ تطوان للأستاذ داود ج: 1 ص: 117.
(3) - ذكرها صاحب الدوحة محمد ابن عسكر ص: 34 ط. ح. فاسية، وابن القاضي في لقط الفراند، مخ. م. ع. الرباط. وصاحب المرآة محمد العربي الفاسي ص: 216 ط. ح. فاسية، وأحمد الرهوني في عمدة الراويين مخ. م. ع. بتطوان، ج: 4 بدون ترقيم.
وتحدث عنها الأستاذ عبد الرحيم جبور في كتابه: (أسرة بني راشد الشفشاونية ومدلولها التاريخي بشمال المغرب) نقلا عن الكتاب الأجانب وهذا الكتاب باللغة الإسبانية ط. تطوان: 1953 م، عربت منه بعض ما يتعلق بهذا الموضوع وسأختصر عنوانه فيما يأتي: (أسرة بني راشد في شمال المغرب).
(4) - انظر نفس المرجع السالف الذكر ص: 23 وتاريخ تطوان للأستاذ محمد داود ج: 1 ص 117 وما بعدها.
(5) - انظر المجلد الأول من الوثائق الملكية تقديم وتنسيق الأستاذ عبد الوهاب بن منصور، الوثيقة 115.
(6) - أنظر (نهاية الأندلس) للأستاذ عبد الله عنان، ص: 185.
(7) - تثبت الوثائق أن هناك جالية أندلسية وردت على شفشاون قبل تجديد بناء تطوان أي قبل سنة 888هـ نقل ذلك العلامة أحمد الرهوني في عمدة الراوين عن عبد السلام بن أحمد السكيرج ج: 1 –بدون ترقيم- مخ. م. ع. تطوان.
(
- جاء في نهاية الأندلس للدكتور عبد الله عنان: «تنوه بها المصادر الأجنبية والعربية على السواء وهي ملكة غرناطة في فترة الاحتضار وهي زوجة الأمير أبي الحسن ابن الأحمر رزقت منه بولدين: محمد و يوسف، عرفت بالحرة ...» ص: 185.
(9) - كانت شفشاون في هذه الفترة تزخر بالعلماء والمثقفين أمثال: الكاتب العلامة القاضي علي ابن ميمون الإدريسي الحسني، وعلي بن أحمد العلمي الشريف، والفقيه علي ابن عسكر والد صاحب الدوحة، والعلامة القاضي المفتي ابن الحاج قاضي شفشاون على عهد بني راشد وغيرهم ...
(10) - عبد الرحيم جبور (أسرة بني راشد بشمال المغرب) ص: 24، ط. تطوان 1953.
(11) - نفس المرجع.
(12) - نفس المرجع.
(13) - أحمد الوطاسي هو ثالث الملوك الوطاسيين المشهورين (932-956 هـ/ 1524-1549 م)، وفي أيامه وقعت المعارك الحاسمة بين السعديين والوطاسيين إلى أن غلب الوطاسيون على أمرهم سنة 956 هـ وفتك بهم محمد الشيخ المهدي السعدي، وأحمد هذا هو آخر ملك وطاسي استمر حكمه مدة طويلة على الجزء الشمالي من المغرب.
(14) - انظر ابن القاضي في لقط الفرائد في أحداث 948 هـ مخ. م. ع. الرباط. ومرآة المحاسن ص: 216 الذي نقل عنه صاحب الاستقصا بالجزء الرابع: ص: 154 ط. دار الكتاب، ارجع إلى التعليق رقم 3.
(15) - عن إبراهيم ابن راشد هذا كتب المسيو روبير ريكار بحثا في مجلة الأندلس الصادرة بمدريد 1941 . م. 6. ج: 2.
(16) - أسرة بني راشد بشمال المغرب، ص: 27.
(17) - فهرس أحمد المنجور ص: 44 ط. الرباط 1976، تحقيق الأستاذ محمد حجي.
(18) - انظر عن هذه القبائل: مجلة البحث العلمي موضوع: أصول المغاربة، للأستاذ النقي العلوي العدد: 27 السنة: 14 ص 201.
(19) - - ترجم صاحب الدوحة لهذه المجموعة من العلماء وتوجد تراجمهم بالصفحات الآتية: 42-43-41-40- ط. حجرية فاسية.
(20) - الملك فيليب الثاني (1556-1598) وهذا لم يكن على عهد الست الحرة (1510-42) بل الذي كان على عهدها ملكا لاسبانيا هو الملك شارل الخامس، كارلو كينطو (1516-1555) ولعله سهو أو سبق قلم.
(21) - عمدة الراوين: ج 4 غير مرقم مخ. م. ع. تطوان.
(22) - لقد بدأ عهد الوطاسيين بعقد هدنة طويلة الأجل بين الملك الوطاسي محمد الشيخ ابن أبي زكرياء (1470-1504) وبين الملك البرتغالي الفونصو الخامس (1438-1481 ).
(23) - الدوحة لابن عسكر ص: 45-46. ط . ح. فاسية.
(24) - لقد لخص الكلام عن هذه المعارك الأستاذ عبد الوهاب بن منصور في تعليقاته على (عروسة المسائل) للقاضي محمد الكراسي المطبعة الملكية 1963.
(25) - السلسلة الأولى المجلد الأول ص: 133 بالفرنسية نقل مقالة هذه إلى الإسبانية الأستاذ عبد الرحيم جبور في كتابه (بنو راشد بشمال المغرب) ص: 25.
(26) - تاريخ تطوان للأستاذ محمد داود، ج: 1، ص: 120.
(27) - تابع لمقالة دي كاستري السالفة..
(28) - (بنو راشد شمال المغرب) ص: 24.
(29) - ابن عسكر في الدوحة، ص: 45. ط. ح. فاسية.
(30) - أسرة بني راشد بشمال المغرب لعبد الرحيم جبور ص: 26.