يوسف الكتاني
تنقسم الأدلة الشرعية إلى قسمين:
1) أدلة نقلية: هي الكتاب والسنة والإجماع.
ويلحق بها العرف وشرع من قبلنا، ومذهب الصحابي.
2) أدلة عقلية: وهي القياس والمصالح المرسلة والاستحسان.
وهذا التقسيم إنما هو بالنظر إلى أصول الأدلة، أما باعتبار الاستدلال بها على الحكم، فكل من القسمين محتاج إلى الآخر ولا غنى له عنه.
ذلك لأن الاستدلال بالمنقول، لابد فيه من النظر والتدبر بالعقل، والاستدلال بالمعقول، لا يكون صحيحا معتبرا في نظر الشرع، إلا إذا كان مستندا إلى النقل، إذ العقل المحض لا مدخل له تشريع الأحكام، كما أكد ذلك الإمام الشاطبي رحمه الله (1).
تعريف المصالح المرسلة:
إن ما يحدث من الوقائع في حياة الناس كثيرا ما يشتمل على أمور تصلح أن تكون مناطا لحكم شرعي يحكم به بناء على تلك الأمور، وهذه الأمور هي ما تعرف عند علماء الأصول بالمعاني المناسبة للحكم، وهذه المعاني المناسبة تتنوع بالنظر إلى شهادة الشارع لها بالاعتبار وعدمه إلى ثلاثة أنواع:
أولا: المناسب المعتبر أو المصلحة المعتبرة، وهي معان قام الدليل الشرعي على رعايتها واعتبارها، وهذه يجوز التعليل بها وبناء الحكم عليها باتفاق القائلين بحجية القياس، ويدخل في هذا النوع جميع المصالح التي جاءت الأحكام المشروعة لتحقيقها، كحفظ النفس الذي شرع الشارع لتحقيقه تحريم القتل وإيجاب القصاص من القاتل عمدا، وكحفظ العقل الذي شرع الشارع لتحقيقه تحريم الخمر وإيجاب الحد على شاربها إلى غير ذلك من المصالح التي اعتبرها الشارع، وشرع الأحكام لتحقيقها.
وعن طريق هذه النوع من المصالح جاء دليل القياس، فإنه مبني على النظر في الأحكام الشرعية ومعرفة قصد الشارع فيها إلى مصلحة بعينها، حتى إذا وجدت هذه المصلحة في واقعة أخرى أخذت حكم الواقعة المصرح بحكمها.
ثانيا: المناسب الملغى أو المصلحة الملغاة، وهي معان قام الدليل الشرعي المعين على إلغائها وعدم اعتبارها، وهذه لا يصح التعليل بها وبناء الحكم عليها باتفاق العلماء.
ذلك أن الشارع الحكيم لا يلغى مصلحة أرجح منها، كما يدل على ذلك استقراء المواضع التي ألغى الشارع فيها بعض المصالح، ولنضرب لذلك مثلا فمنع تعدد الزوجات قد يبدو أن فيه مصلحة، وه يقطع ما يحدث بين الضرات من المنازعات والخصومات التي قد يكون لها أسوأ النتائج في حل الروابط بين أفراد الأسرة الواحدة، ولكن الشارع ألغى هذه المصلحة ولم يعتبرها، وأباح تعدد الزوجات اكتفاء باشتراط العدل بينهن لإباحة هذا التعدد نظرا لما يترتب عليه من المصالح العديدة كتكثير النسل والتوالد الذي هو المقصود الأول من الزواج وصون ذوي الشهوات الحادة من الوقوع في الزنا واتخاذ الخليلات وليكون التعدد أيضا علاجا اجتماعيا عندما يعرض للأمة نقص في الرجال، وخاصة في أعقاب الحروب حتى لا يبقى عدد كبير من النساء بدون عائل يقوم بشؤونهن، ويحصن نفوسهن.
ومن هذه الأمثلة الاستسلام للعدو فإنه قد يبدو أن فيه مصلحة وهي حفظ النفوس من القتلـ ولكن الشارع الحكيم ألغى هذه المصلحة ولم يعتد بها، وأمر بدفاع العدو، ومقاتلته نظرا إلى مصلحة أرجح منها، وهي حفظ كيان الأمة وكرامتها.
ثالثا: المناسب المرسل أو المصالح، وهي معان لم يقم الدليل الشرعي المعين على اعتبارها أو إلغائها لم يقم الدليل الشرعي المعين على اعتبارها أو إلغائها، وسكت عنها ولم يرتب حكما على وفقها وليس لها أصل معين تقاس عليه.
ومن هذا يتبين أن المصالح المرسلة عند الأصوليين هي: المعاني التي يحصل من ربط الحكم بها وبنائه عليها جلب مصلحة أو دفع مفسدة عن الخلق، ولم يقم دليل معين على اعتبارها أو إلغائها.
وواضح من هذا التعريف أن المصالح المرسلة لا تكون إلا في الوقائع التي سكت الشارع عنها، وليس لها أصل معين تقاس عليهن ويوجد فيها معنى مناسب يصلح أن يكون مناطا لحكم شرعي يحكم به بناء على ذلك المعنى المناسب، بحيث إلى إذا عرضت على العقول تلقتها بالقبول (2).
حجية المصالح المرسلة:
يرى الجمهور من العلماء أن المصالح المرسلة حجة شرعية وأصل من الأصول التي يعتد بها في تشريع الأحكام، وعلى هذا الرأي سار الأئمة الأربعة أصحاب المذاهب الفقهية المعروفة، كما يؤخذ من المسائل والأحكام التي بنوها على هذا الأصل، وهي كثيرة في كتب الفقه المختلفة تظهر للمتتبع، وذلك خلافا لما يقول بعض الأصوليين بأن المصالح المرسلة حجة فقط عند الإمام مالك دون غيره من أئمة المذاهب.
ويرى بعض العلماء أن المصالح المرسلة ليست بحجة، ولا يصح أن يبني عليها حكم من الأحكام الشرعية، وهو مذهب الظاهرية، وبعض الشافعية والمالكية كالأمدى وابن الحاجب ولكل من الفريقين أدلة على ما ذهب إليه.
وغي ذلك يورد الشاطبي في الموافقات:
«إن القول بالمصالح المرسلة ليس متفقا عليه، بل قد اختلف فيه أهل الأصول على أربعة أقوال – فذهب القاضي وطائفة من الأصوليين إلى رده، وأن المعنى لا يعتبر ما لم يستند إلى الأصل وذهب مالك إلى اعتبار ذلك، وبنى الأحكام عليه على الإطلاق، وذهب الشافعي ومعظم الحنفية إلى التمسك بالمعنى الذي لم يستند إلى أصل صحيح، لكن بشرط قربه من معاني الأصول الثابتة، هذا ما حكى الإمام الجويني.
وذهب الغزالي إلى أن المناسب أن وقع في رتبة التحسين والتزيين لم يعتبر حتى يشهد له أصل معين، وأن وقع في رتبة الضروري فميله إلى قبوله، لكن بشرط قال: ولا يبعد أن يؤدي إليه اجتهاد مجتهد»(3).
وعلى هذا فقد انقسمت أقوال العلماء في ذلك إلى أربعة أقسام: (4).
1) الشافعية، ومن نحا نحوهم لا يأخذون بالمصالح المرسلة التي لا يوجد شاهد من الشارع باعتبارها ذلك لأنهم لا يعملون إلا بالنصوص والحمل عليها بالقياس الذي يكون أساسه وجود ضابط يضبط ما بين الأصل والفرع أي ما بين المنصوص عليه والملحق به، وقد ذهب إمام الحرمين إلى أن الإمام الشافعي يأخذ أحبانا بالمصالح المرسلة شريطة أن تكون المصالح شبيهة بالمصالح المعتبرة، كما أكد ذلك القول السبكي (5).
2) الحنفية، ومن سار سيرهم ممن يأخذون بالاستحسان مع القياس، فإن الاستحسان مهما يكن قولهم فيه لا يخلو من اعتماد على المصالح المطلقة علما بأن الأحناف اعتمدوا أكثر من الشافعية على المصالح في استنباطهم، فقد ذكر الشاطبي رواية عن الإمام الجويني أن الشافعي ومعظم الحنفية ذهبوا إلى التمسك بالمعنى الذي لم يستند إلى أصل صحيح، ولكن بشرط قربه من معاني الأصول الثابتة (6).
3) المغالون في الأخذ بالمصالح حتى قدموا المصلحة على النص في معاملات الناس واعتبروها مخصصة له، كما اعتبروها مخصصة للإجماع، وذهب هؤلاء إلى أن العلماء إذا اجمعوا على أمر بنص، ووجد مخالفا للمصلحة في بعض وجوهه، قدم اعتبار المصلحة، واعتبر ذلك تخصيصا لأن شرع الله قصدت فيه المصلحة ونصوصه وسائل مرشدة إليها، فإن تحققت هي من غير طريق هذه الوسائل قدم باعتبارها على أن ناقضتها لأن المقاصد مقدمة على الوسائل، وزعيم هذا الرأي هو الطرفي وهو فقيه حنبلي كبير توفي سنة 716هـ (7)، وقد بين رأيه في ذلك عند شرحه لحديث لا ضرر ولا ضرار قائلا:
اعلم أن هذه الطريقة التي قررناها مستفيدين لها من الحديث المذكور ليست هي القول بالمصالح المرسلة على ما ذهب إليه مالك، بل هي أبلغ من ذلك، وهي التعويل على النصوص والإجماع في العبادات والمقدرات وعلى اعتبار المصلحة في المعاملات وباقي الأحكام... وإنما اعتبرنا المصلحة في المعاملات دون العبادات، وشبهها لأن العبادات حق للشارع خاص به، ولا يمكن معرفة حقه، كما وكيفما وزمانا ومكانا إلا من جهته، فيأتي به العبد على ما رسم له، ولأن غلام أحدنا لا يعد مطيعا خادما إلا إذا امتثل ما رسم سيده وفعل ما يعلم أنه يرضيه، فكذلك هاهناـ ولهذا لما تقيدت الفلاسفة بعقولهم ورفضوا الشرائع اسخطوا الله عز وجل، وضلوا وأضلوا، وهذا بخلاف حقوق المكلفين، فإن أحكامها سياسة شرعية، وضعت مصالحهم، وكانت هي المعتبرة وعلى تخصيصها المعول.
ولا يقال أن الشرع أعلم بمصالحهم، فلنأخذ من أدلته، لانا نقول قد قررنا أن المصلحة من أدلة الشرع، وهي أقوها، وأخصها فلنقدمها في تحصيل المصالح ثم أن هذا إنما يقال في العبادات التي تخفى مصالحها عن مجاري العقول والعادات، أما مصلحة سياسة المكلفين في حقوقهم فهي معلومة لهم بحكم العادة والعقل، فإذا رأينا الشرع متقاعدا عن إفادتها علمنا أنا أحلنا في تحصيلها على رعايتنا (
.
4) وهذا القسم يمثل المعتدلين بين الفآت المذكورة وفي مقدمتهم الإمام مالك وأكثر المالكية، وهم الأصح بصرا لأنهم اعتبروا المصالح المرسلة في غير موارد النص المقطوع به.
فقد أخذ المالكية بالمصلحة في المعاملات واعتبروها أصلا شرعيا مستقلا من غير استناد إلى ما عداه من الأدلة الأخرى، فحيثما وجدت المصلحة أخذ بها سواء شهد لها شاهد خاص من الشرع بالاعتبار أم لم يكن لها شاهد بالاعتبار أو الإلغاء، وحتى إذا عارضت المصلحة نصوص ظنية قام التعارض بينهما، وقد يرجح الأخذ بها ويخصص النص أو يضعف سنده إن كان عاما على أنه إذا لم يكن هناك نص معارض أخذ بها.
وقد اجتهد المالكية في فهم معاني المصلحة واسترسلوا في ذلك وتوسعوا مع مراعاة مقصود الشارع، وفي دائرة عدم المناقضة مع أصوله، وقد كانوا في ذلك متبعين لا مبتدعين (9).
شروط العمل بالمصالح المرسلة:
إن القائلين بحجية المصالح المرسلة لم يعملوا بها مطلقة من القيود والشروط، وإنما اشترطوا للعمل بها شروطا، إذا فقد واحد منها لم يعملوا بها وهذه الشروط هي:
1) أن تكون المصلحة من المصالح التي لم يقم دليل شرعي يدل على إلغائها. أما إذا قام دليل شرعي يدل على الإلغاء لم يصح العمل بها.
2) أن تكون المصلحة من المصالح المحققة، أما إذا كانت من المصالح المتوهمة فلا يجوز العمل بها.
3) أن تكون المصلحة من المصالح العامة، أما إذا كانت المصلحة خاصة بشخص معين فلا يعمل بها.
4) أن تكون المصلحة معقولة بحيث لو عرضت على العقول السليمة قبلتها.
وأن تكون في الأخذ بها رفع حرج لازم في الدين. فلو لم يؤخذ بالمصلحة المعقولة في موضعها لكان الناس في حرج، والله تعالى يقول: ?وما جعل عليكم في الدين من حرج? (10).
أدلة القائلين بحجية المصالح المرسلة: استدل القائلون بحجية المصالح المرسلة بما يأتي:
1) ما روى أن رسول الله " قال لمعاذ بن جبل حين بعثه إلى اليمن: كيف تقضي إذا عرض لك قضاء؟ قال: أقضي بما في كتاب الله، قال: فإن لم يكن في كتاب الله؟ قال: فبسنة رسول الله، قال فإن لم يكن في سنة رسول الله؟ قال: أجتهد رأيي لا آلو، «أي أقصر في الاجتهاد» قال معاذ: فضرب رسول الله " صدري بيده، ثم قال: الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله لما يرضى رسول الله».
ووجه الاستدلال من هذا الحديث: إن الرسول " أقر معاذا على الاجتهاد بالرأي إذا لم يجد في الكتاب أو السنة ما يقضي به، والاجتهاد بالرأي كما يكون بقياس النظير على نظيره يكون بتطبيق مبادئ الشريعة، والاسترشاد بمقاصدها العامة. والعمل بالمصالح المرسلة لا يخرج عن هذا.
2) إن من يتتبع تشريع الصحابة الذين هم عماد الاجتهاد بعد رسول الله " يظهر له أنهم كانوا يبنون الكثير من الأحكام على المصالح المرسلة من غير إنكار على أحد منهم في ذلك، فكان إجماعا منهم على العمل بالمصالح المرسلة والاعتداد بها في تشريع الأحكام.
وقد نقل العلماء عنهم كثيرا من الأحكام التي بنوها على ما رواه من المصالح، نورد هنا طائفة منها.
أ) جمع الصحف المتفرقة التي كتب فيها القرآن في مصحف واحد في عهد أبي بكر بإشارة عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنهما، فإن عمل مبني على المصلحة، كما يدل على ذلك قول أب يبكر عندما أشار عليه عمر بذلك. كيف أفعل شيئا لم يفعله رسول الله "، وقول عمر إنه – والله – خير ومصلحة الإسلام.
ب) استخلاف أبي بكر لعمر بن الخطاب، فإنه مبني على المصلحة لأن رسول الله " لم يستخلف أحدا بعده، ولم يرد عنه شيء في ذلك.
ح) إبقاء الأراضي المفتوحة في أيدي أهلها، وعدم توزيعها على الغانمين كما رآه عمر بن الخطاب ووافقه عليه سائر الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين، بعد أن بين لهم ما يترتب على ذلك من المصلحة للمسلمين.
د) حكم عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه بتأبيد الحرمة على من تزوج امرأة في عدتها، ودخل بها، زجرا لأمثاله عن ذلك العمل أو معاملة له بنقيض قصده.
هـ) أمر عثمان بن عفان رضي الله تعالى عنه بكتابة المصاحف وتوزيعها على الأمصار وجمع الناس على مصحف واحد، وتحريق ما عداه من الصحف المنتشرة في الآفاقـ فإنه مبني على المصلحة، وهي وضع حد للخلاف بين المسلمين في قراءة القرآن وحسم مادة هذا النزاع.
و) زيادة عثمان رضي الله تعالى عنه الأذان الأول لصلاة الجمعة، وهو الذي يفعل الآن فوق المآذن عند دخول وقت الصلاة. لما فيه من المصلحة وهي إعلام الناس بدخول وقت الصلاة.
ز) حكم عثمان رضي الله عنه بتوريث المرأة من زوجها الذي الذي طلقها ثلاثا في مرض موته فرارا من إرثها، معاملة له بنقيض مقصودة، أو زجر لمثاله عن هذا العمل المذموم.
ح) حكم الصحابة بتضمين الصناع، ما يكون في أيديهم من أمتعة الناس محافظة على الأموال من الضياع، وفي هذا يقول علي بن أب يطالب «لا يصلح الناس إلا ذلك» يعني الحكم بالضمان.
3) إن المقصود من التشريع جلب المصالح ودفع المفاسد والمضار عن الخلق، ولا ريب في أن مصالح الناس تتجدد بتجدد الزمان. وتختلف باختلاف البيئات، ولا سبيل إلى حصرها في عدد معين، فإذا لم نعتبر المصالح المتجددة، ولم نشرع لها الأحكام المناسبة، ووقفنا عند المصالح التي قام الدليل على رعايتها لضاع على الناس كثير من مصالحهم، ووقف التشريع عن مسايرة تطورات الحياة، وهذا لا يتفق وما قصده بالتشريع من تحقيق مصالح الناس ودرء المفاسد عنهم، ولا يتلاءم مع ما هو مقرر من أن هذه الشريعة شريعة الخلود والبقاء (11).
أدلة المنكرين لحجية المصالح المرسلة:
واستدل المنكرون لحجية المصالح المرسلة بما يأتي:
إن الشارع الحكيم ألغى بعض المصالح، واعتبر بعضها، والمصالح المرسلة مترددة بين ما ألغاه الشارع وبين ما اعتبره، تحتمل أن تكون من المصالح التي اعتبرها، ومع هذا الاحتمال لا يمكن الجزم ولا الظن باعتبارها وبناء الأحكام عليها، وإلا كان ترجيحا بلا مرجح، وهو لا يجوز.
والجواب عن هذه الشبهة. أن القائلين بحجية المصالح المرسلة لا يدعون الجزم باعتبارها بل يقولون: إن الظاهر اعتبارها. والظهور كاف في الأحكام العملية.
والحكم بظهور العمل بالمصالح المرسلة ليس ترجيحا من غير مرجح، لأن لمصالح التي ألغاها الشارع قليلة بالنسبة للمصالح التي اعتبرها، فإذا كان هناك مصلحة لم يقم دليل على اعتبارها أو إلغائها كان الظاهر إلحاقها بالكثير الغالب دون القليل النادر.
على ما ألغاه الشارع من المصالح لم يلغه إلا إذا ترتب على اعتبارها مفسدة تساويها أو ترجح عليها، وهذا غير نتحقق في المصالح المتنازع فيها، لأن جانب المصلحة فيها راجح على جانب المفسدة، كما هو فرض كلام فلا يصح إلحاقها بالمصالح التي حكم الشارع بإلغائها.
2) إن الاعتداد بالمصالح المرسلة في تشريع الأحكام طريق لذوي الأهواء ومن ليس أهلا للاجتهاد ينفذون منه التصرف في أحكام الشريعة وبنائها على ما يوافق أهواءهم ومصالحهم الخاصة، وفي هذا إهدار للشريعة وخروج عن قيودها، وهو يجوز.
والجواب عن هذه الشبهة سهل إذا عرفنا أن من شرط يخرجها عن أن تكون في متناول العلماء الذين لم يبلغوا درجة الاجتهاد، فضلا عن غيرهم من العوام أو ذوي الأهواء، إذ لا يدري أن هذه المصلحة لم يرد في اعتبارها أو إهمالها دليل شرعي إلا من كان أهلا للاستنباط، فليس كل ما يبدو للعقل أنه مصلحة يدخل في قبيل المصالح المرسلة، ويبني عليه الأحكام، وإنما هي المصالح التي يدركها من هو لتعرف الأحكام الشرعية من مصادرها حتى يمكن الوثوق بأنه لم يرد في الشرعية دليل يدل على اعتبارها أو إلغائها.
3) إن العمل بالمصالح المرسلة يؤدي إلى اختلاف الأحكام باختلاف الزمان والبيئات. فإن المصالح – كما هو مشاهد – تتغير بتغير الأزمان وتتجدد بتجدد الأحوال، وهذا ينافي عموم الشريعة، وصلاحيتها لكل زمان ومكان.
وهذه شبهة أضعف مما سبقها لأن اختلاف الأحكام معدود في محاسن الشريعة، وهو كمن الطرق التي تجعلها صالحة لكل زمان ومكان.
وليس هذا الاختلاف ناشئا عن الاختلاف في أصل الخطاب حتى يكون منافيا لعموم الشريعة، وإنما هو اختلاف ناشئ عن التطبيق لأصل عام دائم، وهو أن المصلحة التي لم يرد دليل يدل على اعتبارها أو إلغائها يقضي فيها المجتهد على قدر ما يراه فيها من صلاح، فكأن الشارع يقول لمن أوتي العلم: إذا عرض لكم أمر فيه مصلحة، ولم تجدوا في الأدلة ما يدل على اعتبارها أو إلغائها فزنوا تلك المصلحة بعقولكم الراسخة في فهم المقصود من التشريع وضعوا لها الحكم الذي يلائمها.
وهكذا يكون القول بحجية المصالح المرسلة، هو القول الراجح الذي تشهد له الأدلة، والذي جرى عليه السلف الصالح من الصحابة والتابعين وأئمة الاجتهاد في العصور المختلفة، وأن إنكار هذا الأصل مخالف للأدلة القائمة على حجيته، وفيه فتح باب للطعن على الشريعة ورميها بالجمود، وعدم مسايرتها لتطورات الحياة.
وكيف يسوغ إنكار هذا الأصل وهو مكن أهم الأصول الشرعية، والذي يمكن أن يأتي بثمر طيب إذا تناوله الراسخ في علوم الشريعة، البصير بتطبيق أصولها.
فعن طريق هذا الأصل يمكن لولاة الأمور في الأمة الخبيرين بروح الشريعة ومبادئها العامة وقوادها الأساسية أن يشرعوا لها الأحكام والقوانين التي تحقق مصلحتها وتلبي حاجاتها العارضة ومطالبها المتجددة إذا لم يجدوا لها دليلا خاصا من الكتاب أو السنة أو الإجماع أو القياس.
وقد اتخذ الإمام مالك في ذلك مسلكا وسطا ومذهبا واضحا معتبرا مرامي الشريعة ومقاصدها فيما ذهب إليه، فلم يجعل أحكام العقل في المصالح تعدو طورها وتتعدى موضعها ولم يجعلها معارضة للنصوص القاطعة والأحكام الاجتماعية، ولم يضيق على العقل فيحجر عليه أن يدرك المصالح إلا هن طريق النصوص، بل كان مسلكه بين ذلك قواما من غير إفراط ولا تفريط، فكان المذهب الخصب الثري بالمعاني من غير شطط ولا مجاورة للاعتدال، وكان فيه علاج لأدواء الناس ومرونة تجعله يتسع لأعراف الناس ومصالحهم وأحوالهم على اختلاف منازعهم وبيئاتهم، في نطاق الإقتداء والإتباع (12) والله يهدينا إلى سبيل الرشاد ويوفقنا إلى الصواب والسداد والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
--------------
1) الموافقات للشاطبي ج 3/41.
2) الموافقات 2/90.
3) الاعتصام 2/95 و96.
4) أخذ بهذا التقسيم أبو زهرة في كتابه عن مالك ص 329 وما بعدها.
5) التحرير وشرحه 3/150.
6) الاعتصام 2/95.
7) اتنظر رسالته في الموضوع، مجلة المنار، المجلد التاسع.
ومالك لأبي زهرة ص 331 – 332.
تفسير المنار الجزء السابع ص 194.
9) الاعتصام 2/311 وما بعدها مالك لأب يزهرة 334 و335.
10) انظر الاعتصام ج 2/307 وما بعدها.
11) المصدر السابق 2/ ص 99 وما بعدها.
12) مالك لأبي زهرة ص 340.
دعوة الحق عدد 221