محمد محمود مقلد
هذا القالب الجدي الذي يتميز بالمرونة والحرية في عدد التفاعيل قد ابتكره شعراء عراقيون، وشاميون اشهرهم عبد الوهاب البياتي، وما لبث أن ذاع، واقبل عليه عشرات الشبان في مختلف البلاد العربية، ثم احتضنته الواقعية الاشتراكية حتى أوشك أن يصبح علما على شعرها، وان كان معظم القراء ينفرون منه وينصرفون عنه، لشدة خضوعهم للوزن التقليدي الذي يتطلب تساوي عدد التفاعيل في جميع أبيات القصيدة الواحدة، واعتقادهم أنه سهل يسير، وإن كانت هذه السهولة نفسها سببا في التهافت على النظم فيه، والإقبال عليه.
والحق أن كلا الفريقين مخطئ، فهذا القالب المرن سهل حقا غدا هم الناظم مجرد حشد العبارات المنظومة، ولكنه بالغ الصعوبة والامتناع إذا كان يطمح إلى الإجادة، ولا يحب أن يسقط أو يسف، فإذا تحرر الشاعر من القيد العددي للتفاعيل وجب أن يعوضه إتقان كبير للموسيقى الشعرية، ومقدرة على التنغيم المنوع، لا نجدها في معظم شعرائنا لأنهم لم يعتادوها، كما اعتادها شعراء الغرب، فقد ألفوا-منذ زمن طويل- الشكل التقليدي ذا التفاعيل المتساوية، والنسق الرتيب الذي لا يختلف من بيت إلى بيت.
أما غدا أجاد الشاعر هذا القالب المرن، وأتقنه، ومرن عليه، فإنه سيصبح خليقا بان يهدي إلى الشعر العربي حرية،واتساعا، وانطلاقا هو في اشد الحاجة إليها، فقد طال خضوعه للوزن المطرد، والتنسيق الحاد، والجرس الرنان. وبديهي أن الذوق البدائي وحده هو الذي يحب الجرس الحاد، والموسيقى الصاخبة، كما يحب الألوان الفاقعة-أما الذوق الناضج المهذب فيفضل أن يكوون التنظيم خفية هادئة، كما يفضل أن يكون اللون هادئا لطيفا غير صارخ.
والذين تعودوا منا خفوت التنظيم، ولطفه، وتنوعه في الشعر الغربي تجرح آذانهم، وتخدش أذواقهم حدة الوزن العربي، ونبراته الرتيبة، وكثيرا ما تاقت نفوسهم إلى أن يدخلها قدر من الخفوت والخفة، حتى جاء هذا القالب الجديد ببشائر للتحرر والتطور لم يعرف الشعر العربي اصدق منها منذ عهد الخليل بن احمد، برغم كل ما حاوله من موشحات، وتشطيرات، وتخميسات. حقا أن هذا القالب الجدي لا يدخل تغييرا أساسيا في طبيعة الوزن العربي نفسها، لأن تفاعيله هي نفس التفاعيل القديمة، فضلا عن أنه لا يمكن استعماله إلا في البحور ذات التفعيلة الواحدة المكررة مثل: التكامل، والرمل والمتقارب، أما البحر ذو التفاعيل المختلفة مثل الطويل، والبسيط، والخفيف فهو لا يقبل هذا القالب، ومعنى هذا أن هذا القالب لا يصلح إلا لسنة من بحور الشعر العربي الستة عشر، وفي هذا حرمان كبير.
ولكن برغم هذا كله يقدم القالب الجديد فرصة للتحرر والانطلاق، على أن هذه الفرصة تقتصر على الشكل دون المضمون، فإن تحرر الشكل ومرونته يسمحان للشاعر بانطلاق فكري كبير، لم يعرفه الشعر العربي في كل عهوده السابقة، ويفتحان أمامه آفاقا واسعة- سواء في الشعر الغنائي أوفي الشعر الدرامي-سيكون من الشائق أن نرى كيف يرتادها الشعراء.
على أن هذا التحرر والانطلاق الشكلي والموضوعي يحمل في طياته خطرا كبيرا على من لا يستطيعون تعويضه بتنغيم داخلي أكثر نضجا، ونظام فكريب أكبر دقة، ترتبط فيه أجزاء القصيدة ارتباطا عضويا حيان يغنيها عن ذلك النظام الشكلي الصارم الرتيب الذي تحررت منه، فهؤلاء ينساقون مع تقطيعاته المرنة الحرة كيفما تراءى لهمن فلا يؤدي تحررهم إلا إلى التفكك والفوضى من ناحية الشكل، والهذر والهذيان من ناحية الموضوع، ويقفز إنتاجهم من كل ميزة شعرية حقة، ولا يمتاز عن النثر، بل يصبح النثر أفضل منه لصحته واستقامته الفكرية.
على أن من الشعراء من وفق على حد كبير في بيان ما يكسبه شعرنا الحديث من القالب الشعري الجديد حين يتقن استخدامه، ومن الواقعية الحديثة حين يحسن إتباعها أمثال جيلي عبد الرحمن في قصيدته«أطفال حارة زهرة الربيع».
حارتنا مخبوءة في حي عابدين
تطاولت بيوتها كأنها قلاع
وسدت الأضواء عن أبنائها الجوع لنور، والزهور، والحياة
فاغرورقت في شجوها وشوقها الحزين
نوافذ كأنها ضلوع ميتين.
وبابها عجوز.
***
وفوق عتمة الجدار
صفيحة مغروسة في كومة الغبار
تآكلت حروفها لكنها تضوع
زهرة الربيع
***
وفي البكور يخرج الرجال
أقدامهم منهوكة، وصمتهم سعال
يدعون للإله في ابتهال
يا الــه
افتح لنا الأبواب، وسهل الأرزاق
وتختفي أقدامهم في زحمة الحياة
***
ويصخب العراك في شتائم تدور
وبائع الكرات والجرجير
ينغم بالنداء
في صوته انطلاقه الحمام في السماء.
يختال كاوز في القرى
فيهدا السباب. إلى آخر ما جاء هذه القصيدة مما يصور أمل الأنوثة، وإصرارها على الحياة، والطفولة البريئة الطاهرة، وإصرارها هي الأخرى على الأمل العريض تصويرا واقعيا سهلا صادقا بلغة تقترب من لغة الحديث اليومي.
بقي أن أقول: إذا كان هذا اللون من الشعر لا يستسيغه الكثيرون، ويرفضون أن يعدوه شعرا، إذ يفقدون فيه ضخامة الشعر الكلاسيكي ورنينه أو حلاوة الشعر الروماني ونعومته فالحق انه يحتاج إلى ألفة طويلة، تغير من ذوق القارئ تغييرا أساسيا قبل أن يستطيع الاستمتاع به، وحين يتحقق هذا سيقبل على هذا الشعر، كما يقبل الخارج من قبو متعفن إلى الهواء النظيف الفسيح..
دعوة الحق العدد الثامن عشر