محمد ابن تاويت
وردت هذه الكلمة في الشعر الجاهلي بمعنى المجالس ففي شعر زهير نجد هذا البيت :
وفيهم مقامات حسان وجوههـم
وأندية ينتابها القـول والفعـل
ثم وردت في نصوص أخرى إسلامية بهذا المعنى أو الوقفات التي يقفها الوعاظ والزهاد بين يدي الملوك والولاة ففي كتاب (عيون الأخبار) لابن قتيبة المتوفى سنة 276 نجد فصلا بهذا العنوان (مقامات الزهاد عند الخلفاء والملوك) وفيه يأتي بكثير من مجالسهم ووقفاتهم.
كما نجد من بين رسائل البلغاء - التي جمعها كرد علي- رسالة لإبراهيم بن المدبر المتوفى حوالي سنة 270 يقول فيها : (انظر في كتب المقامات والخطب ومحاورات العرب). ويظهر من هذا أنه قصد بالمقامات ما قصده بها معاصره ابن قتيبة. على أنه مما تجب ملاحظته في هذا النص أن كتبا بعينها كانت قد ألفت في المقامات.
فهو يقول : «انظر في كتب المقامات» ... ولكننا حتى الآن لا نعرف منها ما أشار إليه ابن المدبر في القرن الثالث. وهي بهذا العنوان...
أما مدلول المقامات فلم يكن محدودا. ومن تلك التي ألفها بديع الزمان الهمداني في القرن الرابع ما نجدها في ذلك تتصل تمام الاتصال بالأحاديث التي اخترعها أبو بكر بن دريد المتوفى سنة 321...
وقد تنبه الأقدمون إلى هذا فقال الحصري في (زهر الآداب) عن الهمداني : (لما رأى أبا بكر محمد بن الحسن بن دريد الأزدي أغرب بأربعين حديثا وذكر أنه استنبطها من ينابع صدره واستنسخها من معادن فكره وأبداها للأبصار والبصائر وأهداها للأفكار والضمائر في معارض عجمية وألفاظ حوشية.. عارضها بأربعمائة مقامة في الكدية تذوب ظرفا.
هكذا يقول الحصري. ولكن أين تلك الأحاديث ؟؟ إننا نجدها مبثوثة في كتاب الأمالي لتلميذه القالي المتوفى بقرطبة سنة 256...
ففي هذا الكتاب نجده قد ساق 28 حديثا منسوبا إليه بهذا الاسم إلى جانب أحاديث أخرى رواها عنه..
ولكننا بالرغم من أن تلك الأحاديث يبدو عليها طابع الاختراع فإننا لا نجزم بكونها المقصودة في (زهر الآداب) ذلك أن ابن دريد فيها يسندها لأولئك الذين رواها عنهم بأعينهم المعروفة مع أن الحصري نص على أن ابن دريد ذكر أنه استنبطها من ينابع صدره واستنخبها من معادن فكره...
فهل ما نص عليه الحصري نسبته إلى ابن دريد؟ وإن صح فهل تلك الروايات إنما كانت من زيادات القالي - الذي اضطر إليها وهو بقرطبة الحريصةعليها-؟؟
لا يمكن القطع بالجواب ...
ومهما يكن فقد وجدت هذه الأحاديث بكثرة في القرن الثالث لم يسمها أصحابها بالمقامات كما وجدت كلمة المقامات بدلالاتها الأدبية في هذا العصر بالذات ولكنها دلالات لم تكن محدودة...
ومن بين تلك الأحاديث ما ذكره المبرد المتوفى سنة 285 مثل قصته التي ادعى أنها جرت بينه وبين بعض المجانين في عهد المتوكل... وقد ذكرها المسعودي في كتابه (مروج الذهب) كما ذكر قصصا أخرى من بينها ما ذكره الجاحظ أيام المتوكل أيضا، وادعى أنه كان شاهد عيان فيها... وهي قصص غريبة الوقوع جدا تدور حول الحب والجود بالأرواح فيه لأدنى سبب... ومن الطريف في هذا العهد بالخصوص أننا نجد قصصا في الغرام تحاك حول الحيوانات، فهذا أبو العنبس يذكر للمتوكل قصة غرام حماره ويردفها بهذه الأبيات التي تغزل بها حماره في محبوبته الأتان فيقول :
هـام قلبي بأتـان عند باب الصيدلاني
تيمتني يوم رحنـا بثناياهـا الحـسـان
وبخديـن أسيلـي ـن كلون الشنقراني
فبها مت ولو عشـ ت إذن طال هواني
قال أبو العنبس : قلت : يا حماري! فما الشنقراني ؟ فقال : «هذا من غريب الحمير»...
لقد طرب المتوكل للقصة المضحكة وأمر المغنين أن يقضوا تلك الليلة يطربون مجلسه بشعر حمار أبي العنبس.. وهي على فكاهتها تسلمنا إلى نقد لاذع وجهه أبو العنبس لأولئك الذين كانوا يأتون بتلك الأحاديث ويتعمدون فيها الغريب من اللغة.. ثم إنها في مدلولها تطلعنا كذلك على ما كان هؤلاء يخترعونه من القصص الغريبة ويدعي بعض منهم واقعيتها، بل إنهم يكونون أحد أبطالها أو النظارة فيها..
وقد أوحت هذه القصة بالذات إلى ابن شهيد الأندلسي - في القرن الخامس- بقصة أخرى حول عانة من حمر الجن، فأنشدته هذه شعرا وردت فيه هذه الأبيات : - منسوبة لدكين الحمار-.
دهيت بهذا الحـب منذ هويـث
وراثت ارداني فلست أريــت
كلفت بالفي منذ عشريـن حجـة
يجول هواها فـي الحشا ويعيث
وما بي من برح الصبابة مخلص
وما لي من فيض السقام مغيث
وغير منها قلبهـا لـي نميمـة
نماها أحـم الخصيتيـن خبيث
وما نلت منها نائلا غيـر أننـي
إذا هي راثت رثت حيث تروث
قال ابن شهيد : وقلت للمنشدة : ماهويت ؟ قالت : هو «هويت بلغة الحمير»...
وكذلك كان ابن شهيد في قصته هذه يتناول بعض المعاصرين بذلك النقد اللاذع... فمغزى القصتين واحد...
لنرجع إلى المقامات فنجد الهمداني يتناول فيها عدة موضوعات كان من أهمها ما يدور حول الشعر والشعراء...
وسرعان ما وجدنا ابن شرف القيرواني في القرن الخامس يقلد البديع وينشئ مقامات في هذا الموضوع... وفي نفس القرن نجد من الأندلسيين من ينشئ هذه المقامات : مثل أبي محمد ابن مالك القرطبي وأبي حفص عمر بن الشهيد...
أما الأول فلا تبدو في مقاماته الناحية الحوارية بقدر ما تبدو نواح أخرى من القدرة على الوصف لأشياء متعددة... وأما الثاني فله إلى جانب هذا النوع قصص جميلة لا تقصر في روحها الخفيفة عما ورد في «التوابع والزوابع» لابن شهيد وهذا فصل منها :
وملنا إلى منزل بدوي ذي هيئة وزي
له منزل رحب عريض مزرب
بأعواد بلوط وطوج مفتل
ترى بعر الآرام في عرصاتـه
وقيعانه كأنه حب فلفـل
فهش وبش، وكنس منزله ورش، وصير عاليه إلى ناحية، وجمع أطفاله في زاوية، وجعل يدور كالخدروف أمام الصفوف يتلقى الواحد، من بعد الواحد، ويكشر عن نابه ويتمثل :
أخذي كذا بركاب الضيف أنزلـه
ألذ عندي مـن الإسفنـج بالعسـل
أو من خوار عجول في مسارحها
أو من ركوب الحمير الفره في الكفل
ثم مال بنا إلى بيت مكنس، منوع مجنس، قد جلله حصرا بلدية، وغشاه بسطا بدوية، ومد فيه شرائط وحبالا، كأنه يريد أن يخرج خيالا، وعلق منها غلائل وملاءات، وهمايين وسراويلات، وكم شئت من خرق معصفرة، وعصائب مزعفرة، حتى المقنعة والخمار، والدلال المستعار، وقد اتخذ في الحائط كوة وثانية، وملاها حقاقا وآنية، وأودعها من عتاد العروس فاخره، ومن طيب البادية أوله وآخره.. فقلت : يا صاحب المنزل! هنيت وهنيت، لقد أوتيت وأتيت... وجعلت أرفق عن صبوح، وأقول (متى كان الخيام بذي طلوح) من أين لبداوة هذا الرونق والطلاوة، وكيف حتى أغرت على حانوت العطار، ومتى نقل سوق البز إلى هذه الدار؟ لقد قرت بك الأعين وسرت الأنفس، هذا زي العروس، فأين العرس؟ فضحك البدوي ملء فيه، وتوسمت الإزدراء فيه، وأنشد :
يا أخي نحن على أنـ ـا نتـاج بــدوي
سادة ناس لنـا فـي هـذه الدنيــا دوي
عندنا إن جاء ضيـف شبـع جــم وري
وسريـر حشوه ريـ ـش الفراريج وطي
وكرامـات كثيــرا ت وهيئــات وزي
وهكذا يستمر في مقاماته البديعة الأسلوب الدقيقة التصوير. وقد قلنا : أنها تشبه إلى حد منا توابع وزوابع ابن شهيد : ذلك أنها إلى خفة روحها تجري بعض الحوار على ألسن الحيوانات، على غير تلك الطريقة المعروفة في (كليلة ودمنة) وإنما على طريقة ابن شهيد ثم هي لا تخلو من نقد متستر لبعض المعاصرين : سواء من الناحية الأدبية أو الخلقية...
وتعرف في الشرق عدة مقامات فيها القصص وفيها الوعظ وفيها غير هذا وذاك. ولعل أحسن من يمثل اللونين المذكورين : الحريري للأول والزمخشري للثاني.
أما المغرب الأقصى فإننا لا نعرف له مقامات إلا في أواخر القرن العاشر مثل مقامات أحد كتاب المنصور السعدي وهو رئيس أبو عبد الله محمد بن عيسى، ثم استمر إنشاء المقامات فيما بعد... ومن الحق والحقيقة أن نقول : إن كتابنا لم يوفقوا فيها إلى أبعد حد - إذا استثنينا ابن عيسى- الذي حذا فيها حذو ابن شرف.. أما من أتى بعده من مثل ابن الطيب العلمي، فمنزلهم تقصر عن منزلة غيرهم في هذا الباب.