محمد بن عبد العزيز الدباغ
كان الشعر في الجاهلية يرتبط بالأصوات ارتباطا متينا وكانت عناية الشعراء بالنغمات قوية واهتمامهم بالانسجام الصوتي شديدا فكانوا حريصين على أن تلتذ آذانهم بالسماع وأن تستأنس نفوسهم بذلك التوازن الإيقاعي في الوزن وبذلك التآلف الصوتي في القافية.
لهذا كان الشعر العربي يمتاز بظاهرتين لا تنفصلان عنه إلا قليلا.
الظاهرة الأولى تتصل بتلاؤم الأصوات وتلاؤم الحروف وتحرص على إيجاد التحام بين مختلف الوحدات التي تتكون منها القصيدة الكاملة لتكون منسجمة في حركاتها وسكناتها متقاربة في أنغامها وألحانها، لا يقع فيا من الاختلاف إلا ما أثر فيه على النغم الموسيقي العام وقد اهتم الخليل بن أحمد الفراهيدي فيما بعد بهذه الأوزان وكون علم العروض لدراستها وتحديدها وذكر ما يجوز فيها من الاختلاف وما لا يجوز أن يقع وما لا يلزم.
الظاهرة الثانية تتعلق بالقافية وهي تلك الوحدة المكررة في آخر كل بيت والتي تكون مع الموسيقى نغما جديدا تستأنس به النفس ويحلو في الأسماع وتشتاقه الأذن وتستريح بالركون إليه وبالاطمئنان إلى توازنه وتكراره.
ولقد اختلف علماء العروض والقوافي في تحديد المقصود بالقافية فذهب فطرب النحوي وأبو العباس ثعلب على أنها الحرف الذي تبنى عليه القصيدة والتي تسمى به وروجع قولهما بسبب كون القافية قد تكون أكثر من حرف. وذهب الأخفش إلى أنها الكلمة التي يختم بها البيت الشعري وروجع في ذلك لأن معارضيه رأوا أن القافية قد تكون كلمة وقد تكون أكثر أو أقل الشيء الذي جعل كثيرا من العروضيين يتجاوزون قوله وينهجون نهج الخليل بن أحمد الذي اعتبر القافية مكونة من الساكنين اللذين في آخر البيت مع ما بينهما من الحروف المتحركة ومع المتحرك الذي قبل الساكن الأول(1).
وعلى هذا الاعتبار تكون القافية في قول امرئ القيس:
وقوفا بها صحبي علي مطيهم
يقولون لا تهلك أسى وتحمل
بعض كلمة لأنها تتكون من الحاء والميم المشددة واللام الموصولة وتكون كلمة كاملة في قوله:
ففاضت دموع العين مني صبابة
على النحر حتى بل دمعي محملي
أما في قوله:
مكر مفر مدبر معا
كجلمود صخر حطه السيل من عل
فتتكون من كلمتين هما: من وعل.
وأغلب قواعد القافية بنيت على مذهب الخليل هذا سواء فيما يتعلق بالحروف والحركات أو فيما يتعلق بالمحاسن والعيوب.
ولكن رغم اشتهار قوله في أغلب كتب العروضيين فإننا نجد بعض علماء هذا الفن لا يأبهون به ولا يعتبرون صدقه ومن هؤلاء العالم أبو بكر محمد ابن عبد الملك بن السراج الشنتريني النحوي الأندلسي في كتابه «الكافي في علم القوافي»(2) فقد عرف القافية بأنها كل ما يلزم الشاعر إعادته في سائر الأبيات من حرف وحركة.
وقوله هذا يشمل جميع الصور التي تتكون منها القافية طالت أو قصرت ويجمع مختلف الحيثيات التي دفعت العلماء السابقين إلى القول بنظرياتهم وتعاريفهم.
إن هذا التعريف الأخير يترك للشعراء الخيار فيما يلتزمون به فهم إذا دفعتهم سجيتهم ليجعلوا القافية حرفا كانت حرفا أو ليجعلوها حرفين أو أكثر كانت كما أرادوا واختاروا ولعل هذا الرأي هو الذي أوحى إلى الدكتور إبراهيم أنيس في كتابه موسيقى الشعر ليختار تعريفا للقافية شبيها بهذا حين اعتبر اتحاد الأصوات المكررة قافية سواء كثر هذا الاتحاد أو قل إلا أنه يرى أن العرب كانوا يستحسنون تكرار هذه الأصوات ويعدون ذلك براعة في الكلام لا يقدر عليها إلا الموهوبون ثم قال بعد ذلك: «يجب إذن ألا نجعل كثرة الأصوات المكررة هدفنا الوحيد في نظم الشعر مضحين من أجله بالأخيلة والمعاني كما فعل بعض هؤلاء المتأخرين»(3).
وملاحظة إبراهيم أنيس ضرورية يجب مراعاتها في نظام الشعر العمودي لأن الشعر ليس ظاهرة صوتية فقط بل يجب أن يضاف إليها ما يرتبط بالمعاني وبالتصورات والأخيلة الصالحة لإبراز العواطف ولإثارة المشاعر ولتفجير الشحنات الدفينة في الأعماق الكامنة وفي الشعور الباطني.
ونحن إذا تتبعنا الشعر العربي فسنلاحظ التنويعات الآتية:
أولا- انتهاء أغلب القصائد بقافية موحدة غالبا ما يكون مطلعها مصرعا وهذا النوع تمثله أغلب القصائد العربية.
ثانيا- التزام القافية في كل شطر باعتبار تفعيلته الأخيرة عروضا وضربا في آن واحد، وهذا الاعتبار في الأصل كان صورة للإيجاز العربي ولكن بعض الشعراء أخرجوه من إطار الاستقلال المعنوي وأدخلوه في إطار الوحدة المضمونية، ويتزعمهم في ذلك أيام العباسيين الشاعر العبقري ابن الرومي الوصاف الماهر، ومما جاء على هذا الشكل قوله(4):
رب كعاب في حجاب لم تزل
مثل الغزال عنفا ومكتحل
لم تكتحل مقلتها سوى الكحل
ولا تحلى جيدها سوى العطل
ما زالت منها في مطال وعلل
حتى إذا ما قدر البين نزل
خلست منها نظرة على وجل
آخرها أولها من العجل
ثم أجنتها غيابات الكلل
ثالثا- الالتزام بالتوازن الصوتي بين الشطر الأول والثاني في اتحاد القافية دون الإلزام بالسير على هذا النسق في جميع الأبيات فيجوز للشاعر أن يكرر الحرف إذا شاء وأن يغيره لكن لا على أساس تغيير ما بين العروض والضرب ولكن على أساس تغيير ما بين بيت وآخر، أما إذا استعمل عروضا في الشطر الأول فمن الضروري أن يجعل الضرب مثلها في الشطر الثاني.
ويتجلى هذا النوع في الأراجيز المزدوجة ولقد استعمله الشعراء في الحكمة وفي نظم أراجيز الأطفال التي تجعل بعض القصص والحكايات والأمثال موضوعا لها كما استعمله النظامون في تدوين قواعد العلوم والفنون.
وعلى هذا النوع بنيت أرجوزة أبي العتاهية المعروفة بذات الأمثال وهي التي يقول في بعض أبياتها:
حسبك مما تبتغيه القوت
ما أكثر القوت لن يموت
ما انتفع المرء بمثل عقله
وخير ذخر المرء حسن فعله
من جعل النمام عينا هلكا
مبلغك الشر كباغيه لكا
إن الشباب الفراغ والجده
مفسدة للمرء أي مفسده
وقد أنشدت هذه الأرجوزة بحضرة الجاحظ فلما بلغ منشدها إلى قول أبي العتاهية:
يا للشباب المرح التصابي
روائح الجنة في الشباب
قال الجاحظ للمنشد قف ثم قال لجلاسه: «انظروا إلى قوله روائح الجنة في الشباب فإن له معنى كمعنى الطرب لا يقدر أحد على معرفته إلا بالقلوب وتعجز عن ترجمته الألسن إلا بعد التطويل وإدامة الفكر. وخير المعاني ما كان القلب إلى قوله أسرع من اللسان إلى وصفه»(5).
ومن طبيعة الأراجيز أنها قابلة لامتداد المعاني وتنويعها ولسهولة الألفاظ وتيسيرها كما أنها قابلة للزحافات المفردة والمزدوجة دون أن يحدث خلل فني إذا جمعت مع التفاعيل التامة سواء اتحد ترتيبها أو اختلف.
رابعا- نظام المقصورات وهو عبارة عن ختم القصيدة كلها بالألف المقصورة من غير التقيد بوحدة الحرف الذي يوجد قبلها ومن أشهر المقصورات في الأدب العربي مقصورة ابن دريد ومقصورة حازم.
ومن الشعراء من التزم حرفا معينا قبل الألف فأحدث بسبب ذلك نغما جميلا ولكنه ضيق على نفسه وأصبحت القصيدة في الحقيقة تنسب للحرف المكور لا إلى الألف ولهذا يعتبرها العروضيون في الحال وصلا لأوربا(6).
ولقد حاول بعض الشعراء أن يخرجوا المقصورة من رتابتها التقليدية ولكنهم في الوقت ذاته لم يريدوا إعطاءها طابع الالتزام المطلق بالحرف الذي قبل آخرها فنوعوه بعد ذكر مجموعة من الأبيات وقد يتعدد تنويعهم فتتعدد بذلك لذة الاستماع وعلى هذا الشكل بنى حافظ إبراهيم مقصورته التي جعل عنوانها نادي الألعاب الرياضية وفي طريقتها يقول الدكتور إبراهيم أنيس: «وليت الشعراء المحدثين يراعون في نظمهم ما راعى حافظ في هذه القصيدة حتى تتم للشعر موسيقاه».
وأنا شخصيا كنت قد لاحظت جمال هذا التنويع قبل حافظ في إحدى المقصورات التي ذكرها المقري في نفح الطيب وهي للشاعر الأندلسي محمد بن أحمد الهواري المعروف بابن جابر الضرير ولولا ما فيها من التكلف في بعض أبياتها ومن الغرابة في بعض كلماتها لأضافت جمال الأداء إلى جمال التنويع(7).
يقول في مطلعها:
بادر قلبي للهوى وما ارتأى
لما رأى من حسنها ما قد رأى
خامسا- هناك من الشعراء من لم يتقيد بالقافية إلى أبعد حدودها وحاول التخفيف من سطوتها فاستعمل الشعر المسمط الذي كان ينوع قافيته أو استعمل التشطير أو التخميس أو غير ذلك من المظاهر التي لا تجعل القافية ثابتة من أول القصيدة إلى آخرها ولعل هذه المحاولات هي التي كانت من الأسباب في استعمال الموشحات لما فيها من الرقة ومن تلوين الفواصل وتقريب المقاطع وهي أيضا من أسباب التلوين الصوتي الذي ميز كثيرا من محاولات الشعر الحديث في أدب المهجرين وفي أدب الرواد مثل العقاد وشوقي في شعره المسرحي.
وفي هذا النوع برع من المهجريين نسيب عريضة الذي يقول عنه الأستاذ عيسى إبراهيم الناعوري في إحدى مقالاته: «إنه يتميز عن زملائه الرابطيين بكثرة تلاعبه في الأوزان الشعرية ليجعل الشعر مزيجا لطيفا من الرقة والغناء والرشاقة. وكثيرا ما يوفق ذلك إلى الجمال والرقة العذبة»(
.
ولنأخذ هذه الصورة من قصيدته النهاية التي يبرز فيها ألمه وتحسره على قومه الراضين بالذل المستسلمين للاستعمار الدخيل وهي تبرز ذلك التبديل في القافية الذي لا يحدث أي نشوز في الذوق ولا أي قصور في التأثير زيادة على التصرف في القالب الشعري العمودي مما يقول فيها عن وطنه:
كفنوه و أدفنوه! أسكنوه
هوة اللحد العميق
واذهبوا لا تنذبوه فهو شعب
ميت ليس يفيق
هتك عرض، نهب أرض، شنق بعض
لم تحرك غضبه
فلماذا نذرف الدمع جزافا
ليس تحيا الحطبة
رب ثار، رب عار، رب نار،
حركت قلب الجبان
كلها فينا ولكن لم تحرك
ساكنا إلا اللسان
ورغم عدم التوازن الكامل بين أجزاء التفاعيل في كتابة الأبيات كتابة عادية وعدم الالتزام بالمعهود في بحر الرمل عروضا وضربا وترتيبا فإن الجمال الذي لاحظه النقاد واضحا عليها باديا في تنسيقها وموسيقاها.
ويمكن أن ندخل في هذا النوع بعض القصائد التي حافظت على تفاعيل معينة واستعانت ببعض الاتحاد في الفواصل فكانت سبب ذلك أقرب إلى الشعر المعتاد ومن أشهر الشعراء الذين يمارسون ذلك الأديب نزار قباني فهو الذي يقول في قصيدته المسماة رسالة من سيدة حافدة ...(9) :
«لا تدخلي ...»
وسددت في وجهي الطريق بمرفقيك
وزعمت لي ...
أن الرفاق أتوا إليك
أهم الرفاق أتوا إليك؟
أم أن سيدة لديك
تحتل بعدي ساعديك؟
وصرخت محتدما:
قفي!
والريح تمضغ معطفي
والذل يكسو موقفي
لا تعتذر يا نذل، لا تتأسف..
أنا لست آسفة عليك
لكن ...
على قلبي الوفي
قلبي الذي لم تعرف ...
وهكذا يستمر في تنويع الحروف التي تقوم مقام الروي في كل مقطع من مقاطع قصيدته إلى أن يقول في آخرها على لسان هاته السيدة الضائعة:
إني أراها في جوار الموقد أخذت هنالك مقعدي ...
في الركن ... ذات المقعد
وأراك تمنحها يدا
مثلوجة .. ذات اليد ...
ستردد القصص التي أسمعتني
ولسوف تخبرها بما أخبرتني ...
وسترفع الكأس التي جرعتني
كأسا بها سممتني
حتى إذا عادت إليك
لترود موعدها الهني ...
أخبرتها أن الرفاق أتوا إليك ...
وأضعت رونقها كما ضيعتني
وهذه الخطة الجديدة في الأداء كانت من الشعراء شبه ثورة على التقليد المطلق ولكنها في الوقت ذاته لم تكن ثورة على جميع أشاله فهي قد حافظت على الإيقاع من جهة كما قد حافظت على بعض مظاهر التوازن في أواخر الكلمات.
ومع ذلك لم تجد من بعض النقاد من يستسيغهاغ فمنهم من رأى أن الثورة يجب أن تكون تامة إلى أبعد الحدود ليستطيع الشاعر نسف القيود التي تحد من انطلاقه وتكتبه دون البلوغ إلى تحقيق صوره وأخيلته ومنهم من رأى أن هذا التلوين مفسدة للذوق العربي وخروج عن الجادة فلو قارنا بين ناقدين معاصرين هما الدكتور عبد الله الطيب المجدوب والدكتور عز الدين إسماعيل لوجدناهما يسيران في خطين متناقضين ولكل منهما وجهة يدافع عنها، فالدكتور المجدوب يرى أن كل خروج عن طابع القصيدة العربية يعتبر هدرا، في حين أن الدكتور عز الدين إسماعيل قرر بأن موسيقى القصيدة العربية التقليدية جامدة وصاخبة ورتيبة(10)؛ وبين هذين الرأيين آراء تتفاوت درجتها بين التقييد والانطلاق وبين الالتزام بالأوزان والقوافي في وحدة البيت والاعتداد بالإيقاع دون غيره ويمكن الإطلاع على هاته الآراء في الدراسات التي وضعها رواد الشعر والنقد في العصر الحديث من أمثال مدرسة الديوان ومدرسة المهجريين ومن جاء بعدهما من النقاد وفي كتاب النقد الأدبي الحديث للدكتور محمد غنيمي هلال دراسات قيمة لا يستغني عنها المهتمون بهذا الموضوع.
وأنا أرى أن الخلاف في هذه النقطة لا يمكن أن ينتهي بسرعة ما دام الإحساس بالجمال يختلف باختلاف بعض المقدرات لعناصره والمقومات لأسسه وما دام العنصر الفلسفي الذي تبنى عليه النظريات يأخذ ملاحظ شتى لا نقدر على حصرها في اتجاه معين أو في أسلوب واحد.
وعليه فإن التحرر من القوافي أو من الأوزان في بعض الاتجاهات الشعرية المعاصرة لا نقول أنه حل المشكلة التعبيرية حلا نهائيا وإنما كان محاولة تطبيقية لنظريات جمالية أو فلسفية تمثل بعض الاتجاهات في التعبير الشعري عن الإحساسات الإنسانية وتنضم في المسيرة مع الطرق التعبيرية الأخرى التي تستمد حياتها من جمال الموسيقى وحسن الأداء.
(1) - تفصيل ذلك يؤخذ من الحاشية الكبرى للدمنهوري على متن الكافي في علمي العروض والقوافي، ولقد استعملنا نفس الأبيات الشعرية التي استدل بها صاحب المتن المذكور.
(2) - هذا الكتاب مطبوع مع المعيار في أوزان الأشعار لنفس المؤلف بتحقيق الدكتور محمد رضوان الداية ويوجد هذا التعريف بالصفحة 89 من الطبعة الأولى.
(3) - موسيقى الشعر – الطبعة الرابعة – صفحة 246.
(4) - ابن الرومي حياته من شعره للأستاذ عباس محمود العقاد، صفحة 371.
(5) - مختارات الأغاني في الأخبار والتهاني لابن منظور مؤلف لسان العرب وهي مختارات من كتاب الأغاني للأصفهاني – المطبعة السلفية، صفحة 14.
(6) - تفصيل الحديث عن الألف المقصورة وعن ذكر اسمها تجده بحاشية الدمنهوري على الكافي صفحة 90.
(7) - نفح الطيب للمقري، تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد، الجزء العاشر، صفحة 167.
(
- مجلة الكتاب، عدد مايو سنة 1948.
(9) - من ديوان «قصائد» لنزار قباني – الطبعة السادسة، صفحة 125.
(10) - رأي عبد الله الطيب المجدوب يؤخذ من كتابه المرشد إلى فهم أشعار العرب. أما رأي الدكتور عز الدين إسماعيل فيؤخذ من كتابه التفسير النفسي للأدب.