2ـ البدعة المذمومة لا تكون إلا في الدين، وهو ما يدل عليه حديث: "مَن أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رَدٌّ" (رواه البخاري ومسلم) وتحديد الأمور الدينية وفصلها تمامًا عن أمور الدنيا من الصعوبة بمكان؛ لأن دين الإسلام نظام شامل لم يترك شيئًا من أمور هذه الحياة إلا بيَّنه نصًّا أو إشارة، تصريحًا أو تلويحًا، والنصوص الدالة على ذلك كثيرة، لكن ورد أن هناك أمورًا دنيوية لا يَلْزَمُنا فيه الاتباع، كما جاء في تأبير النخل وقول الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ لهم: "أنتم أعلم بأمر دنياكم" (رواه مسلم).
3ـ إن الكلام عن البدعة واضح فيما ورد في الكتاب والسنة من أقوال، لكن ما هو الرأي فيما وراء ذلك وهو الأفعال التي صدرت عن الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ ولم تصدر عنه فيها أقوال، هل تُعَدُّ كلها سنة تُتْبَع وجوبًا أو ندبًا، أو لا تُعَدُّ من هذا القَبِيل؟
أـ ما كان خاصًّا بالرسول كالوِصال في الصيام بين الليل والنهار لا تَأَسِّي فيه.
بـ ما صدر عنه على وجه الجِبِلَّة والطبيعة والعادة كالأكل والشرب والنوم، لا تأسي فيه من جهة فعله، بل التأسي فيما ورد فيه قول عنه. وغاية ما يدل عليه مجرد فعله هو الإباحة، ولا يَصِح أن يُقال لمَن خالَف ذلك: إنه بدعي تارك للسنة.
ج ـ ما عُرِف كونه بيانًا للقرآن كقطع اليد اليُمنى للسارق لقراءة ابن مسعود، فيه التأسي وجوبًا أو ندبًا كحكم المبين.
د ـ ما ليس من الأمور السابقة، أي ليس خاصًّا ولا جِبِلِّيًّا ولا بيانًا، وهو نوعان:
نوع عُلِمت فيه صفته في حق الرسول من وجوب أو ندب أو غيرهما، فأمته تابعة له، لقوله ـ تعالى ـ: (لقدْ كانَ لكُمْ في رسولِ اللهِ أسوةٌ حسنةٌ) (سورة الأحزاب: 21).
ونَوْع لم تُعْلَم صفته في حق الرسول، أي لم يقم دليل خاص على أنه للوجوب أو غيره، فيُنْظَر فيه، فإن ظهر فيه معنى القُرْبة كافتتاح الرسائل بـ"بسم الله"، فيُحمَل على أقل مراتبه، وهو الندب ففيه التأسي والاتِّباع، وإن لم يظهر فيه معنى القربة كإرسال شعر رأسه إلى شحمة أذنه وإرخاء العذَبة بين كَتِفيه، قال: قوم لا تأسي فيه، غاية الأمر أنه مأذون فيه غير ممنوع، وقال آخرون: إنه مندوب كالنوع السابق.
4ـ هذا فيما فعله الرسول، فما الحكم في تركه؟ قال العلماء:
أـ ما تركه جِبِلَّة وطبيعة كأكل الضبِّ فلا تأسي فيه، وذلك أن خالد بن الوليد قال له: أحرام هو يا رسول الله؟ قال: "لا، ولكنه لم يكن بأرض قومي فأجدُني أُعافه"، وقد أكله خالد أمامه (رواه البخاري ومسلم).
ب ـ ما ترَكَه خصوصية له كأكل الثوم؛ فقد ورد أنه لما أهدي إليه طعام فيه ثوم أرسل به إلى أبي أيوب الأنصاري، فقال: يا رسول الله تكرهه وترسل به إليَّ؟ فقال: "إني أناجي مَن لا تُناجي" (رواه البخاري ومسلم). وهذا لا تأسي فيه لعدم وجود المُقْتَضى، وما ورد من النهي عن أكله فذلك لمَن أراد حضور الجماعة في المسجد، منعًا للإيذاء ـ أما مَن لم يُرِد الحضور فلا حرَج عليه في أكله.
جـ ما تركه لا جِبِلَّة ولا خصوصية، فيُنْظَر فيه: فإن عُلِم حكم الترك في حقه ـ صلى الله عليه وسلم ـ حرمة أو كراهة فالناس تبَع له، وإن لم يُعلَم دل على عدم الإذن فيه، وأقل مراتبه الكراهة، فيُحْمَل عليه حتى يقوم الدليل على ما فوقها وهو التحريم.
د ـ وإن ترك شيئًا لمانع من فعله، وقد صرَّح به كترك صلاة التراويح جماعة خشية الفرضية فهذا لا تأسي فيه بعد وفاته لعدم خشية الفرضية بانقطاع الوحي، ولهذا رجع عمر إلى الأصل وصلَّاها جماعة ومدحها. ومثله عدم قتل الرسول لحاطب بن أبي بلتعة الذي حاول إخبار قريش بمسيرة الرسول إلى مكة لفتحها، وذلك لقوله: "إنه شهد بدرًا" فأي جاسوس غيره يُقْتَل إن رأى الإمام ذلك كما قال مالك، وذلك لعدم وجود مانع منه وهو شهود بدر.
هـ ـ وإذا ترك شيئًا لعدم المقتضى لفعله ثم حصل المقتضى بعد موته كان للمجتهد أن يرى رأيه، وذلك كجمع المصحف، حيث لم يكن له داعٍ في حياة الرسول، لكن لما تُوفِّي وكثُر القتل في القرَّاء في الغزوَات رأى أبو بكر صواب جمعه لوجود المقتضى له، ومثله الأذان الأول للجمعة الذي أحدثَه عثمان على الزَّوْرَاء لإسماع الناس وإعلامهم بدخول وقت الصلاة بعد كثرتهم وشُغْلِهم بالتجارة.
وـ وإذا ترك أمرًا لم يُوجَد ولم تتهيأ أسبابه كعلامات التوقيت ورصد القمر خلف السحاب لمعرفة أوائل الشهور، ثم تَهَيَّأت الأسباب لذلك فلا تأسى في تركه، وليس ذلك مُخالفًا للسنة، فهو من قبيل المسكوت عنه يَجْتَهِد فيه العلماء.
أما الترك الذي يدل على عدم الإذن فيه فهو ما نُقِل عنه بلفظ صريح، كتركه الأذان والإقامة للعيدين، وتركه غسل شُهَداء أحد والصلاة عليهم.
5ـ لا ينبغي أن يُسَمَّى "بدعة" إلا شيئًا عمليًّا حدث جديدًا لم يكن أيام النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وصحابته الراشدين المهديين؛ لأن هذا هو معنى "أحدث". أما ترك شيء كان يفعله النبي وخلفاؤه فلا يُسَمَّى بدعة، بل يُسَمَّى مخالفة، سواء وصلت إلى درجة التحريم أو بَقِيَت في درجة الكراهة، اللهم إلا إذا اتُّخِذ الترك دينًا يُتَعَبَّد به فيكون بدعة، كمَن حرَّموا على أنفسهم أكل اللحوم لا لسبب طبيعي، ولكن للتدين وترك الحلال، فتحريمها من هذه الوجهة بدعة، أما الزهد، والتقشف وإيثار الآخرة فلا بأس به.
6ـ البدعة الدينية: تكون في الأصول المُتَّفَق عليها، أما الفروع التي هي محل الاجتهاد وفيها خلافات للعلماء فلا ينبغي أن تُوصَف بالبدعة، وقد قال العلماء: إن العمل المُسْتَحْدَث إذا استند إلى حديث ولو كان ضعيفًا يُخرِجه عن نطاق البدعة.
7ـ الشيء الجديد الذي يُنْتِج خيرًا على المستوى الفردي أو الجماعي، لا ينبغي أن نُسارع إلى إطلاق اسم البدعة عليه، والحكم بأنه ضلالة وفي النار، بل يجب أن ننظر أولاً إلى عدم وجود نص يمنعه، وإلى عدم وجود ضرَر فيه، ويُحكَم عليه بأصل الحِلِّ، وبما تَقَرَّر من أنه إذا وُجِدت المصلحة فثَمَّ شرع الله، وإذا أُطلِق اسم على هذا الشيء الجديد يُشبِه اسمًا دينيًّا فلننظر إلى المحتوى لا إلى القالَب الذي قد يكون من باب التشبيه الذي يُقْصَد فيه المعنى المجازي لا الحقيقي.ا.هـ
والله أعلم