جاء في قصة صُلح الحديبية، وفيها: (فلما فُرغ من قضية الكتاب قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه قوموا فانحروا ثم احلقوا قال فو الله ما قام منهم رجل حتى قال ذلك ثلاث مرات فلما لم يقم منهم أحد دخل على أم سلمة فذكر لها ما لقي من الناس فقالت أم سلمة يا نبي الله أتحب ذلك اخرج ثم لا تكلم أحدا منهم كلمة حتى تنحر بدنك وتدعو حالِقك فيحلقك فخرج فلم يكلم أحدا منهم حتى فعل ذلك نحر بدنه ودعا حالِقه فحلقه فلما رأوا ذلك قاموا فنحروا وجعل بعضهم يحلِقُ بعضا). [البخاري 2529]
وقد انتزع أهلُ العلم من هذا الحديث أن البيان بالفعل أقوى من البيان بالقول، وقال الإمام مالك: بلغني أن القاسمَ بن محمد كان يقول ( أدركت الناس وما يُعجبون بالقول)، قال مالك: ( يريد بذلك العمل، إنما يُنظر إلى عمله ولا ينظر إلى قوله). أ.هـ.
ومن المعلوم أن مخالفة العملِ للقول مما يؤدي إلى أعظم ما يكون من الفساد والفتنة في الدين، حيث يختلط عند الناس الحق بالباطل بل ويكون الدين في أعينهم في صورة شديدة، من جراء ما يرونه من مفارقة العمل للقول في واقع حَمَلة الدين ورجاله المتحدثين باسمه.
وما أفقه قول بوهيفٍ حيث قال؛ ضرب مثل لعلماء السوء فقيل: ( إنما مثل عالم السوء كمثل الحجر بالساقية، فلا هو يشرب الماء، ولا هو يُخلِ الماء الى الشجر فتحيا به). أ.هـ
قال ابن القيم ( علماء السوء جلسوا على أبواب الجنة يدعون إليها بأقوالهم ويدعون إلى النار بأفعالهم، فكلما قالت أقوالهم للناس هلمَّوا قالت أفعالهم لا تسمعوا منهم، فلو كان ما دعوا إليه حقًا؛ كانوا أول المستجيبين له، فهم في الصورة أدِلاَّء، وفي الحقيقة قطاع طرق) اهـ. [الفوائد]
ولذا فإنَّ أبصارَ المدعوين شاخصةً نحو الدعاة تحصي عليهم كل شيء وإن دق، إذ لما نصَّبوا أنفسهم لدعوة الناس؛ نصَّب الناسُ إليهم وجوههم.
وقد قال تعالى في حقِّ أُمَّهات المؤمنين رضي الله عنهن: { يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا} [الأحزاب:30]
وما ذاك إلا لأنهن قُدوات، مع ما فيه من صيانةٍ لجنابهن وجناب رسول الله صلى الله عليه وسلم- فلما كانت مكانتهنّ رفيعة ناسَبَ أن يجعل الله الذنب الواقع منهم عقوبتُهُ مغلظة، فأفاد ذلك أن من عظُمت منزلته وشخصت الأبصارُ إليه ليس كغيره من الخاملين الذين لا يأبه لهم، إذ الأول محل النظر والاقتداء دون الثاني.
قال ابن القيم: ( فقواعد الشرع تقتضي أن يسامح الجاهل بما لا يسامح به العالم، وأنه يغفر له ما لا يغفر للعالم، فإن حجة الله عليه أقوم منها على الجاهل، وعلمه بقبح المعصية وبغض الله لها وعقوبته عليه أعظمُ من علم الجاهل، ونعمة الله عليه بما أودعه من العلم أعظم من نعمته على الجاهل، وقد دلت الشريعة على أن من حبي بالإنعام وخصَّ بالفضلِ والإكرام ثمَّ أسام نفسه مع ميل الشهوات فأرتعها في مراتع الهلكات، وتجرأ على انتهاك المحرمات، واستخفَّ بالتبعات والسيئات أنه يقابل بالانتقام والعتب بما لا يقابل به من ليس في مرتبته). اهـ.
فالقاعدة هنا؛ أنه كلما كانت الدرجة أعلى كان العذاب عند المخالفة أعظم لخصوصية المنزلة والمحل.
وقد كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه إذا صعد المنبر فنهى الناس عن شيء جمع أهله، فقال إني نهيتُ الناس عن كذا وكذا، وإن الناسَ ينظرون إليكم نظر الطير إلى اللحم، وأقسمُ بالله لا أجد أحدًا فيكم فعله إلا أضعفت فيه العقوبة.
بل إن الداعية قد لا يسعه ما يسع الناس لخصوص منزلته، وخصوص ما نصَّب نفسه له، وعلى هذا جرى الدعاة الهداة.
قال الإمام الأوزاعي: (كنا نضحك ونمزح، فلما صرنا يُقتدى بنا خشيتُ أن لا يسعنا التبسم) أ.هـ.
وقال القاضي عياض: (لا ينبغي لمن يُقتدى به إذا ترخّصَ في أمرٍ لضرورة أو تشدّد فيه بوسوسة، أو لاعتقاده في ذلك مذهبًا شذّ به عن الناس أن يفعله بحضرة العامة الجهلة؛ لئلا يترخّصوا برخصته لغير ضرورة أو يعتقدوا أن ما تشدد فيه هو الفرض اللازم). أ.هـ.
فكيف بما هو فوق ذلك من المخالفات الظاهرة المنادى عليها، وقد قيل: إذا اشتغل العلماء بجمع الحلال؛ صار العوام أكلة الشُبهة.. وإذا صار العلماء أكلة الشبهة؛ صار العوام أكلة الحرام.. وإذا صار العلماء أكلة الحرام صار العوام كفَّارًا.
ومن ثمَّ فالظالم لنفسه بمخالفة عمله لقوله لا يكون إمامًا يقتدى به أبدًا، وهو ما يدل عليه عموم قوله تعالى: ( وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) [البقرة:124]
عن مجاهدٍ أنه قال في الآية السابقة : (لا أجعل إمامًا ظالمًا يُقتدى به)
وإنما لا يكون من خالف عملُه قولَه إمامًا؛ لأن النفوس مجبولةٌ على عدم الانقياد على من يخالف قوله فعله، فاقتدائهم بالأفعال أبلغ من اقتدائهم بالأقوال المجردة.
وقد قيل:
يا واعظ الناس قد أصبحتَ متهمًا *** إذ عبتَ منهُم أمورًا أنت تأتيها
ومن هذا القبيل، قولُ الإمام عبدالله بن المبارك في إسماعيل بن علية -رحمهما الله جميعًا- لما تولى ولاية للصدقة عند الرشيد حيث كتب له يقول:
يـا جـاعل العـلـم لـه بـازيا
يصـطــاد أمــوال المســاكين
***
احـتـلت لـلدنيــا ولذاتهــا
بحيلـــة تـــذهبُ بـــالدين
***
فصـــرت مجنونـــا بـهـا
بعـدمـا كـنـت دواءً للمـجـانين
***
أيـن روايـاتك فـيمـا مـضـى
عـن ابـن عـونٍ وابـن سـيرين
***
ودرسُــك العـلــم بآثــاره
فــي تـرك أبـواب السـلاطـين
***
تقــــولُ أكـــرهت فمـاذا
كذا زل حـمار العـلم فـي الطـين
***
لا تبــع الــدين بالـدنيــا
كـمــا يفعـل ضـلال الرهـابين
هذا وابن علية ابن علية، والرشيد الرشيد.
وعن سفيان الثوري قال: (المال داء هذه الأمة، والعالم طبيب هذه الأمة، فاذا جر العالم الداء الى نفسه فمتى يبرؤ الناس).
قال المناوي: (فانظر إذا كنتَ إمامًا أي إمام تكون، فربما نجت الأمة بالإمامِ الواحد، وربما هلكت بالإمام الواحد؛ وإنما هما إمامان:
إمام هدى: قال الله عز وجل { وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا} [السجدة:24] يعني على الدنيا، وإنما صاروا أئمة حين صبروا عن الدنيا، ولا يكون إمامُ هُدىً حُجةً لأهل الباطل فإنه قال: { يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا} [السجدة:24] لا بأمر أنفسهم، ولا بأمور الناس.
وإمام آخر: قال الله تعالى: { وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ} [القصص: 41] ولا تجد أحدًا يدعو إلى النار، ولكن الدعاةَ إلى معصية الله.
فهذان إمامان هما مثلٌ من الذين خلوا من قبلكم وموعظة للمتقين" اهـ.
ومتى خالف العمل القول؛ فقد القول مصداقيته، وشك المدعوون في يقين قائله فيه، إذ لو كان القائل على يقين من صحة وصدق ما يدعوا إليه لكان أول مبادر إليه مستمسك به.
قال المناوي : (منزلة الواعظ من الموعوظ كالمُداوي من المداوى فكما أن الطبيب إذا قال للناس لا تأكلوا كذا فإنه سم ثم رأوه يأكله عد سخرية وهزؤا، كذا الواعظ إذا أمر بما لم يعمله ومن ثم قيل يا طبيب طبب نفسك، فالواعظ من الموعوظ يجري مجري الطابع من المطبوع فكما يستحيل انطباع الطين من الطابع بما ليس منتقشا فيه فمحال أن يحصُل في نفس الموعوظ ما ليس في نفس الواعظ) انتهى كلامه.