وكذلك جعل ماء المزن أجاجًا. والمزن هو السحاب الأبيض المثقل بماء المطر، وهو أنقى ماءوأعذب. ولئن اجتمع الإنس والجن بما أوتوا من قوة على أن يعيدوا هذا الماء بعد جعله أجاجًا إلى حالته الأولى، لعجزوا عن ذلك، ولو كان بعضهم لبعض ظهيرًا.ومن هنا كان جعل هذا الماء أجاجًا- أي: شديد المرارة والحرارة لوقته دون تأخير- أدلَّ على قدرة الله تعالى، من جعل الزرع حطامًا، وإن كان الكل أمام قدرة الله سواء. ويدلك على ذلك أن قوله تعالى:﴿ لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا ﴾
قيل على طريقة الإخبار؛ لأن جعل الماء المنزل من المزن أجاجًا لوقته عقب المشيئة، لم يشاهد في الواقع؛ لأنه لم يقع، بخلاف جعل الزرع حطامًا؛ فإنه كثيرًا ما وقع كونه حطامًا بعد أن كان أخضرَ يانعًا، خلافًا لمن زعم خلاف ذلك. فلو قيل: جعلناه حطامًا، بإسقاط اللام؛ كما قيل: جعلناه أجاجًا، لتُوُهِّم منه الإخبار.
ويدلك على ذلك أيضًا أن دخول هذه اللام على جواب ﴿ لَوْ ﴾، لا يكون إلا في الأفعال، التي لا يُتخيَّل وقوعها؛ كما في قوله تعالى:
﴿ قَالُوا لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا ﴾(الأنفال: 31). أي: مثل القرآن.
﴿ قَالُوا لَوْ شَاء رَبُّنَا لَأَنزَلَ مَلَائِكَةً ﴾(فصلت: 14)﴿ وَلَوْ نَشَاء لَطَمَسْنَا عَلَى أَعْيُنِهِمْ ﴾(يس: 66)﴿ وَلَوْ نَشَاء لَمَسَخْنَاهُمْ عَلَى مَكَانَتِهِمْ ﴾(يس: 67)﴿ وَلَوْ نَشَاء لَجَعَلْنَا مِنكُم مَّلَائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ ﴾(الزخرف: 60)ونحو ذلك قوله تعالى:
﴿ لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا ﴾
فجعل الزرع حطامًا ممّا لا يتخيل وقوعه، وإن كان يقع؛ ولهذا قال تعالى عقِبه:﴿ فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ ﴾ فأتى بفعل التفكُّه؛ لأن ذكر الحطام يلائم التفكُّه. ومعنى الاعتداد بالزرع، يقتضي الاعتداد بصلاحه وعدم فساده، فحصل التفكُّه.والمعنى: فظلتم تعجبون من هلاك زرعكم، وتندمون على ما أنفقتم فيه. وقيل: تلاومون، وتندمون على ما سلف منكم من معصية الله، التي أوجبت عقوبتكم، حتى نالتكم في زرعكم. والقولان مرادان يكمل أحدهما الآخر، والدليل على ذلك قوله تعالى:﴿ وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا ﴾(الكهف:35) إلى قوله تعالى:﴿ وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَداً ﴾(الكهف: 42) ألا ترى إلى قولهلفرط غفلته، وطول أمله، واغتراره بجنته:﴿مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا ﴾. إنه لم يتخيل هلاكها أبدًا، فلما ظهر له أنها مما يعتريه الهلاك، ندم على ما صنع.
أما جعل الماء العذب أجاجًا فهو مما يتخيل وقوعه، وإن لم يقع. ومثله في تخيل الوقوع، والتعجيل به عقب المشيئة قوله تعالى:
﴿ أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الأَرْضَ مِن بَعْدِ أَهْلِهَا أَن لَّوْ نَشَاء أَصَبْنَاهُم بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ ﴾(الأعراف: 100)
ولهذا عقَّب تعالى على جعل الماء أجاجًا بقوله:
﴿ فَلَوْلَا تَشْكُرُونَ ﴾ وهو تحضيض لهم على الشكر بإخلاص العبادة لله تعالى وحده على هذه النعمة، التي هي أعظم النعم. ومثل تهديد الكفار بجعل الماء المنزل من المزن أجاجًا تهديدهم بجعل ماء الأرض غورًا. وإلى ذلك الإشارة بقوله تعالى:﴿ قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْراً فَمَن يَأْتِيكُم بِمَاء مَّعِينٍ ﴾(الملك: 30)فكيف يمكن القول بعد هذا: إن جعل الماء أجاجًا أسهل وأكثر من جعل الزرع حطامًا، وإنالوعيد بفقد الزرع أشد وأصعب من الوعيد بفقد الماء، فاحتاج الأول إلى تأكيده باللام، دون الثاني ؟ ألا ترى أنه لولا الماء، لما كان هناك زرع، ولا شجر، ولا حيوان، ولا بشر ؟ ألم يسمعوا قول الله تعالى:﴿ وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاء كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ ﴾(الأنبياء: 30)؟ومما يدلك أيضًا على فساد ما ذهبوا إليه أن من يتأمل الآيات، التي أدخلت اللام فيها على جواب ﴿لَوْ ﴾، يجد أن هذه اللام تقوم مقام السين، وسوف في الدلالة على التسويف في إيقاع الفعل تارة، والمماطلة تارة أخرى. وأوضح ما يكون ذلك في قوله تعالى في صفة الكافرين:
﴿ وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آَيَاتُنَا قَالُوا قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ ﴾(الأنفال:31)
أي: لو نشاء لقلنا مثل هذا القرآن. وهم لم يقولوا، ولن يقولوا، ولا يمكنهم أن يقولوا؛ ولهذا أتوا بهذه اللام، التي دلت على تسويفهم، ومماطلتهم، وهذا بخلاف قولهم:
﴿ لَوْ شَاء اللّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلاَ آبَاؤُنَا وَلاَ حَرَّمْنَا مِن شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم حَتَّى ذَاقُواْ بَأْسَنَا ﴾(الأنعام : 148 )
لاحظ كيف قرنوا شركهم بالله تعالى، وتحريمهم ما أحل بمشيئته سبحانه مباشرة دون تأخير. ولو قالوا: لما أشركنا.. لدل قولهم على أن شركهم جاء متأخرًا عن المشيئة، فيحتمل حينئذٍ أن يكونوا آمنوا، ثم أشركوا.
ثم تأمل ذلك في بقية الآيات، التي جاء فيها جواب الشرط مجردًا من اللام، والآيات، التي اقترن فيها جواب الشرط باللام، تجدها كلها على ما ذكرت، إن شاء الله ! وإن كنت ممن يتأملون الكلام، ويتلذذون بإدراك أسرار البيان، فتأمل قول كُثيِّر عَزَّةَ:
رهبانُ مَدينَ، والذين عهدتـهم ***يبكون من أثر السجود قعودا
لو يسمعون كما سمعت كلامها ***خرُّوا لعَزَّةَ رُكَّعًا، وسجـودا
ثم لاحظ قوله خرُّوا لعَزَّةَ رُكَّعًا، وسجـودا )، تجده قد وقع عقِب سماعهم كلامها، دون تأخير. ثم تأمل قول توْبةَ بن الحُمَيِّر: ولو أَنَّ لَيْلَى الأَخْيَلِيَّةَ سَلَّمَـتْ ***علىَّ، ودُونِى جَنْدَلٌ وصَفائـــحُلَسَلَمْتُ تَسْليمَ البَشَاشَةِ، أَو زَقَا ***إِليْها صَدًى من جانب القَبْرِ صائحُولاحظ قوله لَسَلَمْتُ تَسْليمَ البَشَاشَةِ )، كيف أدخل فيه اللام، التي تدل على المماطلة والتسويف في إيقاع الفعل، الذي لا يتخيل وقوعه. ولو أردت أن تتبيَّن الفرق بين الموضعين، فقارن بين قول أحدهم:لو جاءني زيد أكرمته... وبين قوله: لو جاءني زيد لأكرمته.. تجد أن الأول صادق في قوله، والثاني مماطل مسوِّف، ثم تذكر أن القول بزيادة اللام في الثاني للتوكيد من أخطر الأقوال، التي يفسَّر بها كلام الله جل وعلا.. ولهذا أقول: ينبغي أن تسمَّى هذه اللام: لام التسويف؛ لأنها تفيد ما يفيده كلٌّ من السين وسوف، من دلالة على التأخير والتسويف والمماطلة في إيقاع الفعل. ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا، فلا علم لنا إلا ما علمتنا، لك الشكر على ما أنعمت، ولك الحمد على ما تفضلت به علينا من نعمة العلم والفهم والدين، وسلام على المرسلين !